مرحبا بك في الجحيم

مرحبا بك في الجحيم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قرأت، قبل أسابيع، لا أعرف أين على وجه التحديد، أن الشاعر الأمريكي جيمس رايت تلقَّى ذات يوم قصيدة كتبها ولده المراهق فرانز. كان جيمس في ذلك الوقت قد هجر أسرته وانتقل ليعيش حياة أخرى. قرأ رسالة ولده، وقصيدته الأولى، فبعث إليه ردا بليغا: أنت شاعر يا ولد، مرحبا بك في الجحيم.

يمكن أن تكون هذه جملة أولى في مقالة تتناول الولد فرانز، الذي كبر حتى لم يعد من الأدب وصفه بالولد، والذي كبر حتى مات هو نفسه قبل أسابيع. والذي أصبح هو وأبوه نادرة في عالم الشعر الأمريكي، فلم يحصل أب وابنه على بولتزر في الشعر  إلا في حالة واحدة، هي حالة جيمس وفرانز رايت.

ويمكن أن تكون الجملة الأولى في مقالة عن جيمس رايت أيضا. عن تصوره عن الشعر؟ نعم. أم تصوره عن الجحيم؟ وارد أيضا. أم عن مبالغات الشعراء وظنهم أنهم، من دون الناس، يعيشون في عالم يخصهم داخل العالم، أو أنهم من دون الناس أكثر حساسية تجاه أوجاع العالم الكثيرة؟

ويمكن أن تكون الجملة الأولى في مقالة عن قصيدة تعيش عليّ وأعيش عليها منذ نحو خمسة عشر عاما.

***

الحب في غرفة دافئة في الشتاء

مشكلتي معك

أنك تتصورين أن كل ما أريده

هو أن آخذك إلى السرير

وأمارس معك الحب.

.

وهذا غير صحيح.

.

كنت فقط أحاول أن نكون صديقين.

وكل ما كنت أريده

هو أن أذهب إلى السرير

معك

وأمارس الحب

معك.

.

ومن كان ذلك الطائر الذي رأيناه يطير رأسا على عقبٍ عصرَ اليوم على قٌمْعِ السنديانة، على حافة الهاوية، في الجليد؟ ألم يكن، بالذمة، ساحرا؟ نعم، هكذا كان، والآن، والآن، والآن،

خذي الأمر ببساطة

أوكيه؟

***

أريد أن أدافع عن الناطق بهذه القصيدة، أن أقف دون ثوبه الأبيض الناصع، أمنع عنه ذرة الغبار تحملها ريح الأخلاق، أو سهم الشك تطلقه العين المستريبة.

لا، ليست هذه قصيدة غواية. ليست وسيلة يتوسل بها رجل، أو ذكر إن تواقحتم، إلى امرأة. ليس الأمر في يقيني هكذا.

أنا أصدق هذا الرجل في هذه القصيدة. أعرف أن كل ما كان يريده من المرأة هو أن يذهب معها إلى السرير، وأن يمارس معها الحب. أسمع صوته وهو يقول هذا نيابة عن المرأة، جاعلا في صوته كل ما لديها من ريبة، وربما كل ما تشعر به من احتقار لحيوانية الرجل، وأسمع صوته وهو يقول هذا بصوته هو، لكني أسمع هنا صوته الطفل عاجزا، مرغما على اللغة، مدركا أنها لا تكفي لتقول ما يعنيه. أراه وهو يعترف بما يدينه، لكنه اعتراف العارف ـ من دون الناس ـ أنه البريء، ربما من دون الناس أيضا.

أنت شاعر يا ولد، فأهلا بك في الجحيم. وما هذه غير لمحة من جحيم الشاعر. وقديما، لم يكن من بديل أمام الخالق لكي يخلق العالم إلا أن يضع يده في الطين، أن يقترب ما استطاع من الطين، ويبقي فيه أصابعه الشريفة، الإلهية، فهكذا، وهكذا فقط، يمكنه أن يقيم العالم الذي يخايله.

كلنا مكرهون على اللغة، ولكن أحدا لا يحس وجع هذا الاضطرار مثلما يحسه الشاعر، والعاشق. كلاهما يعرفان أنهما لا يحتملان الصمت عما في صدريهما، وليس لديهما من اللغة ما يفتح باب السجن، فلا بديل أمامهما إلا الرضا بالقليل. هكذا يقترب الشاعر ـ والعاشق أيضا ـ بما في صدره من باب السجن، يضع المعنى الساري في بطنه، قريبا ما استطاع، ويبقى يضبطه أمام النور إلى أن يرتمي له ظل خارج السجن، فيفرح الشاعر بهذا القَدْر من الحرية، ويرضى بهذا القَدَر من السجن.

لم يكن يستدرج امرأة إلى سريره. أما سمعتموه يقول معك؟ أما سمعتموه يكررها: معك؟

ولم يكن يستدرج امرأة إلى سريره. الأمر ببساطة أنه رأى طائرا كأنه يسقط، وهي معه رأت الطائر كأنه يسقط، ورأى أيضا أنه جميل. أقصد أنه ساحر.

لم يكن يستدرج امرأة إلى سريره. بل أراد أن يكون وإياها صديقين. وأن يذهبا معا إلى السرير. صديقان وفي السرير. تماما كطائر يلعب بنفسه، بوجوده كله، يجرب السقوط مهدَّدا بالهاوية، وفي اللحظة الأخيرة ينجي نفسه، ليعلو مرة أخرى ويسقط مرة أخرى، كما يليق بطائر، كما يليق بلاعب.

ثم إنه قد يحدث أن يغيب رجل وامرأة في قبلة ثم لا يكونان بعدها: طائرا واحدا يلعب، لكن هذا ليس سوى فشل هو كما قال المرحوم توماس إديسن، صانع المصباح وكرسي الإعدام: خطوة إلى النجاح.

 

مقالات من نفس القسم