وهو ما يكشف عن إخلاص التجربة للقصة القصيرة دون غيرها من فنون السرد ،وتؤكده مجموعتها الأخيرة ” حيل للحياة ” التي تعد تجربة شديدة الخصوصية تتوزع على عشرين قصة قصيرة تجمع بين عدد من الشخصايات ذات الطبيعة الخاصة التي ترتفع بأصحابها إلى مستوى أعلى من الرمز أحيانا أو من الدلالة على خصائص إنسانية قد تتدرج من الإيجابي إلى السلبي والعكس ، وهو ما يجعل من الشخصيات نماذج للحياة أو طريقة للكشف عن أمور حياتية شديدة التصوير لعالمها الذي ليس هو عالم الشخصيات داخلها فقط وإنما هو عالم القارئ أيضا في قدرته على تلقي النصوص وفق رؤية تفرض عليه الحركة بين عالم النص والعالم خارجه .
قد تتوافق بدرجة ما مع “الرجل الذي أحب زوجته ” غير أنك في لحظة ما ستعده إنسانا خارجا من رحم الحياة التي يعرفها الجميع وأنه مجرد تعبير عن ملايين يعيشون حالته الإنسانية الطابع .
القصة تخبر عن رجل يتابع تحولاتها ، لك أن تراها زوجته بوصفها الأقرب لذهن من يفكر بطريقة ما تقليدية تخص العلاقة بين الرجل والمرأة ولكنك في لحظة ما يكون عليك أن تتجاوز الفكرة التقليدية إلى فكرة أعمق تتناسب مع الفن في طبيعته الأعمق صعودا إلى فكرة جديدة تتمثل في كون الشخصيتين : الزوجة والزوج المخبر عنهما مجرد واجهة معبرة عن نماذج بشرية أولا أو عن حالة يعيشهاالإنسان تتمثل في العلاقة بين الإنسان والمعرفة ، عليك أن تعرف لتدرك طبيعة التحول فالحياة في حالة حراك وتغير ولن تستطيع الدخول في حالة التغير (المثمروالضروري والطبيعي أيضا) مالم تكن قادرا على امتلاك المعرفة ، والرجل عندما لايعرف طبيعة الأشياء لا يعرف كيفية استعادة المرأة في تحولها مما يجعل من عملية المعرفة والتحول طاقة كبرى فاعلة تتجاوز قدرات الإنسان على استيعاب العالم :
“ولكنها بدأت مؤخرا في التحول لأشياء لا يعرفها ولا يعرف لأي مكان تنتمي وكلما تأخر في المعرفة تأخرت هي في العودة ” (قصة الرجل الذي أحب زوجته )
والقصة في تدرجها نحو النهاية تقيم ثلاث علامات دالة :
– تعدد أشكال التحول المؤثرة في إنتاج الكثير من الرموز التي تتضام لتشكل رؤية النص التي يسربها إلى المتلقي .
– تعدد أشكال قراءة العلاقة بين الشخصيات في ثنائيتها فالنصوص تقوم في معظمها على ثنائية إنسانية تتحرك النصوص معها عبر أمكنة متعددة ، تتدرج من أمكنة خارج النصوص إلى النصوص داخلها إلى داخل النفس الإنسانية بوصفها مكانا صالحا لتحريك عالم من الحكي الدال .
– تدرج الخيال في خصوبته فالكاتبة تمتلك قدرا كبيرا من خصوبة الخيال القادرة على إنتاج أحداث وبث تفاصيل ليس من الممكن إدراك طبيعتها دونما امتلاك قدر مناسب من الخيال في قدرته على استيعاب الأمور المحيطة بالحدث ، فإذا كانت القصة الأولى “الرجل الذي أحب زوجته ” قادرة على تقديم نموذج متصاعد للخيال يتمثل في كون الزوجة في تحولها يمثل حدثا غير عادي (فوق عادي ) ، فإن سياق خصوبة الخيال يتصاعد حول هذا الكائن النوراني (نفهم من طرح الكاتبة أنه أحد أبناء كيوبيد ) في القصة الثانية التي تعد واحدة من أجمل قصص المجموعة “أبناء كيوبيد ” تقدم نموذجا دالا في طرح شخصية شخصيات كيوبيد :” تروي الحكايات أنه واحد فقط ، ولكني أعلم أنهم جيش منظم .
يتحركون في تناسق تام فيما بينهم دون كلمة ، بقاماتهم القصيرة وأجسادهم الداكنة يستطيعون الاختباء والتنقل بمهارة وسرعة “(أبناء كيوبيد).
الحركة المنظمة هنا تعني طموح السارد للنظام ، وتلك العلاقة الدالة على التصالح مع الآخرين والتفاهم مع أبناء النوع الواحد (إنها إشارة شديدة الدلالة على حال البشر المعاكس ) يتحرك أبناء كيوبيد بوصفهم نوعا مغايرا ، مثالا لمن يربطهم الحب ، والساردة تعمل على طرحهم عبر رؤية إشكالية يتحرك فيها المتلقي بين كونهم بشرا أو نموذجا أعلى من البشر, ذلك النموذج الذي حوله الحب إلى ملاك ، وبين كونهم ملائكة بالفعل لكنهم يمثلون نموذجا أعلى للبشر يكون على البشر الاقتداء به :كما أنهم يتكاثرون بنظام دقيق ووفق جدول زمني محدد لضمان استمرار قدرتهم على الحضور بنفس الكثافة بين هؤلاء البشر الذين يتكاثرون بشكل يفوق الخيال” ، الساردة ترفعنا إلى ملائكيتهم تضعنا على الأعراف بين البشرية والملائكية دافعة متلقيها لأن يجتهد للوصول للملائكية دون التخلي عن بشريته ، وهي تربط بين متلقيها وهؤلاء عبر الطرح المباشر والإعلان عبر محاولة الحوار مع المتلقي ، ذلك الذي يأتي بمثابة محاولة للتصالح مع الآخر البشري اقتداء بالآخر الملائكي :” دعنا نطلق عليهم أبناء كيوبيد ، نسبة إلى كبيرهم الذي توهم أجدادنا وجوده ، وأسبغوا عليه من الصفات ما تصورته عقولهم الغضة عنه” (أبناء كيوبيد) .
“أبناء كيوبيد يحبون هؤلاء الأكثر فطنة ، الذين يقابلونهم دونما اندهاش كأنما يقابلون زميلاً في العمل أو جاراً مسنّاً ..تصبح ” أحبك ” في سهولة ” صباح الخير ” وتصبح الكلمات الحارة ولمسات الأيدي فوق السحاب والشعور اليقيني ” بأننا متشابهان لدرجة لا يتصورها عاقل ولا ينكرها إلا مجنون ” يصبح هذا كله أشياء اعتيادية ، يمكن ببساطة إعادة استخدامها وبنفس الكفاءة عند اللزوم “(أبناء كيوبيد).
في نعومة سردية مرجعها هذا الخيال الخصب تقدم الساردة قصة الحب وكيف يحدث مفسرة عالما تقف فيه عند الجانب الآخر ، فقد عودتنا الحكايات دائما على مقاربة الحب عبر نتائجه لذا تغيب عنا دائما حلقة مفقودة لا نشعر بفقدانها يطرحها سؤال لا يجاب عنه لأنه لا يطرح بالأساس : كيف يحدث الحب ؟ ، وهو ما تؤكده مجموعة من القصص التي تتضح فيها تيمة الحب عبر دوائره الأرقى ، كما في قصة ” الهالات المقدسة ” التي تمثل وجها آخر لرصد الحب حين يكون حدثا يتسلل في نعومة إلى قلوب البشر :” أحمق من يعتقد الطيران حلماً ، التحليق قدر وليس اختياراً ، والسماء للطائر كما الطين بالنسبة للدودة – هكذا ذات مرة قرأت –
الذين يصيبهم داء التحليق يشعرون دوماً بآلام في الكتفين والعنق ، ويعانون من ثقل حجم الرأس والذي يجعل مهمتهم صعبة .
تستطيع أن تميزهم بسهولة إذا دققت النظر قليلاً في وجوههم الشاحبة والهالات النورانية المعلقة فوق رؤوسهم “(قصة :الهالات المقدسة)، التحليق هنا يمثل شكلا من أشكال السمو إلى مافوق المعتاد ، والطيران حين يكون قدرا فإن الإنسان يمنح ما يجعله قادرا عليه خلافا لكونه حلما يحلم به إنسان قد لا يمتلك مقدراته وهو ما يجعله يبدو نوعا من الجموح الطائش أو هو نوع من محاولة غير ناجحة من الإنسان لإثبات ذاته .
تلك النعومة تجعل لقصص المجموعة كلها مذاقها الخاص ، وتأخذنا إلى ملمح أنثوي له خصوصيته ، ففي الوقت الذي تتفرغ فيه النصوص الأنثوية (التي تنتجها أنثى ) ممررة عبر خبراتها الأساسية تتفرغ لقضايا تخص القهر والتسلط الواقع على الأنثى من قبل المجتمع مما يجعلها دائما نوعا من الذاكرة الأنثوية لرصد مساحات الخلاف بين الرجل والمرأة ‘ في هذا الوقت تخرجنا الساردة من هذه الدائرة لتعيدنا إلى نظام العلاقة القائمة على مرجعية من الحب ، وهو ما تراهن عليه النصوص في تجسيدها للحظات الأرقى بين الرجل والمرأة حتى وإن بدا شكل العلاقة آخذا ما تطرحه الساردة في صورة “الجريمة الكاملة ” في تصويرها للحظة تبدو اعتيادية :” ” أحبك ” … قالها ببساطة ، فعرفت أن اللعبة قد بدأت .
بنفس البساطة ، وكشخص لم يعد يخشى المزيد من الخيبات ، سرت بجواره .. دخلنا للمقهى ، جلسنا على الطاولة بجوار النافذة ، جاء النادل ووضع كأسي العصير أمامنا بشكل بدا اعتياديّاً ..” (قصة : الجريمة الكاملة )
القصة تأخذك إلى احتماليتها في التأويل عبر طرحين أساسيين يبدوان متغايرين بدرجة ما :
– أن يكون المعنى مؤسسا على فكرة مصداقية اللحظة التي تبدو مجرد لعبة لمن هم خارجها ، وينظرون للأمر بنوع من السخرية لأنهم لا يدركون طبيعته .
– أو أن يؤسس على المخالفة لذلك وأن اللعبة لعبة عبثية بالأساس لمن هم داخلها ولكنهم لا يكونون مقصودين لذاتهم بقدر ماهو مقصودون لغيرهم في إشارتهم للعالم وشخوصه ” لحسن الحظ لم ينتبه لما اختلسته يدي ، ساحبة بعض الدقائق من الساعة الذهبية الملتفة حول معصمه .. أغلفها بشرائط وردية ، أضعها في الدرج إلى جانب ما قد جمعته على مر السنوات الكثيرة الماضية من مفاتيح وأقلام وعلب سجائر وولاعات فضية وأوراق … أوراق … أوراق كثيرة مليئة بشيوخ تدعي الحكمة ، وأولاد وبنات صغار .. والكثير من الأرقام الفردية ” (قصة : الجريمة الكاملة ) ، وهو ما يكون له مصداقيته عبر الوقوف على الأشياء الصغيرة التي تختزل الأشخاص ، والأشياء هنا تقوم بوظيفتين أساسيتين :
– أولاهما: الإحالة إلى أشخاص بعينهم خارج النصوص تختزلهم أشياؤهم.
– ثانيتهما : تجسيد طبيعة الأشياء في النصوص وكيف أن الساردة حين تطرحها هنا تجعل منها مفاتيح لقراءة العالم فالعالم ليس مسرحا لحركة الإنسان فقط وإنما هو أيضا مكان لحياة الأشياء .
إنها ساردة يميزها خيالها ، وتضعها تجربتها في مكانة تليق بخيالها الخصب ولغتها القادرة على تقديم نموذجها الفني الأكثر جمالا.
…………………………
- نُشر في مجلة المصور – 20 مايو 2015- العدد 4728