تغافل مدينتها المجهول، فتصل إلى شارعها الذى يضج بالمقاهى (الحرافيش، دعاء الكروان، شهريار..) تدخل أحدها، تتوه وسط الجالسين فى انتظار عمل أنفار البناء ومدمنى النرد، و قبل أن تلتقط أنفاسها، وتستمتع بأنس الوجوه التى تألفها، يتخشب كل الجالسين فى المقهى ويتحركون كأعمدة إلىالشارع وتلفظ كل بناية أحشاءها. بطول الشارع يتعمود الجميع ويستسلمون لآلاف الأمتار البيضاء الملطخة بالحبر الأسود والأحمر والأزرق التىتعلق بين انفراجة أيديهم المرفوعة لأعلى، غابة من الأعمدة الخشبية تورق صوراً ولافتات دون ثمر، تتأكد من ذللك بقذف أحد الأعمدة بحجر فلا يتساقط عليها رطب أو حتى نبق.
تعود الخطوات الرتيبة تلف حولها.. تدور حول محورها ودون أن تكتمل الدورة تتخلى الأعمدة الخشبية عن مواقعها.. تتجمع فى دائرة.. تقترب منها على إيقاع الخطوات المجهولة.. تضيق الدائرة.. تحاصرها.. ينكمش الهواء.. يثقل الظل.. تقترب من نقطة التماس.. تسقط وفوقها آلاف اللافتات المتصلة.. تتخبط بيدها.. تبعدها.. لكن الأقمشة تتشرنق حول جسدها وقبل أن تصل الطيات إلى عينيها وهى ممدة تغطيها بقايا الأحبار المتعفنة، تشعر بالخطوات الدبابة فوق رأسها.. ترفع عينيها وترى وجهه.. تصرخ وتضيع صرختها فى اللاوعى بين اليقظة والنوم.
تنتبه حواسها لجلبة الصباح فى شقتهم.خطوات أبيها من الحمام إلى حجرته بعد الوضوء. طالما تعجبت من أين جاء أبوها بهذا القبقاب الخشبي الذى يذكرها إيقاعه بعزفها وهى صغيرة على آلة الأكسليفون بعد ضياع عصا العزف ذات الرأس الخشبية واستبدالها بأحد الحروف الموسيقية الحديدية المخلوعة، فكان عزفها مجرد ضجيج بلانغم ولم يعترض أحد فى أية مرة.. كما تنسى هى فى كل المرات أن تسأل والدها عن قبقابه.
تتداخل الأصوات، ويعجز عقلها عن فك شفرتها، بل يسترجع ما يحفظ من دعاء أبيها الذى لا تتبين ألفاظه، لكن معانيه تغسل روحها، ويرطب جفاف حلقها من غصة كوابيس الليل.. صوت والدتها وهى تنادى:
– الفطور جاهز يا حاج.
تغلق كل حواسها وتنكمش تحت الغطاء،لا يطاوعها النوم،الحقيقة أنها لا تريده، تكفيها مطاردات الليل، يتسرب إليها صوت المذيعة الضاحك الذى تستمتع به وهى تقول:
– بصبح عليك.
كل صباح ترد تحيتها لكن صباح اليوم ليس ككل الصباحات، لا تريد أن تعطى أو تأخذ، فقط تريد أن تبقى مستكينة فى فراشها مغلقة الحواس، كل شئ يدعو لذلك حتىالنشرة التىغير والدها من أجلها مؤشر الراديو تدعو حواسها للبقاء فى بيات شتوى لسنوات لا لفصل، تتصدر النشرة نفس الأخبار.
– جموع الشعب تقول نعم وتجدد البيعة يوم الوفاء.
– الفلسطينيون والإسرائيليون يتفاوضون لتنفيذ مذكرة اتفاق واى ريفير.
تتوالى بقية الأخبار، مكررة تدعوها برتابة إيقاعها أن توافق وتتزوج رجلاً لا تعرفه وإن كان يبدو لها واضحاً كالصحراء مساحات منبسطة بلون واحد لا تل أو هضبة أو مفاجأة.
وضوحه المصطنع يخفى عكارة تشوش قدرتها على معرفته. يعدها بمنح وامتيازات كثيرة لا تلقى لها بالاً، ضغطه يشوش قدرتها على تنفيذ قرارها وليس اتخاذه.. لا يكف عن الثرثرة كلماته دائماً موزونة لصالحه:
– لن تجدى عريساً أحسن منى.
– ولا تفكرى،الكل هيعمل حسابك،صاحباتك هيحسدوك.
– وافقى وأنا سأفعل كل شئ.
تدخل أمها الحجرة
– يا بنتى الساعة سبعة ونصف.. انت لسه نايمة.
تفتح النافذة ومع أشعة الشمس يدخل غبار سجادة تنفضها جاة بمضرب ثقيل، تغلق الأم النافذة بسرعة.. متى تأتى الأمطار وتغسل كل القاذورات.
تسألها أمها وهى تضع يدها على جبينها
– ألن تذهبى للمدرسة؟
– تتذكر:
– آه د المدرسة لجنة مبايعة النهاردة. لكن برضه لازم تصحى، لو كسلانة هعملك فنحان قهوة يصحيكى.
– تكتفى بهز رأسها بالموافقة وابتسامة باهتة.
من المطبخ تتسرب رائحة القهوة، تتفتح مسامها للرائحة التى تحب، تملأ خياشيمها، تأخذ نفساً عميقاً، وتطرده بعد أن تستبقى الرائحة التى تدمنها رغم تعدد الروائح من حولها.. عطور.. عادم السيارات.. عرق سائق الميكروباص وهو يحك يده ببنطلونها مع كل حركة للفتيس.. تبقى رائحة البن الممتزج بالحبهان طوق نجاة، الحاسة السادسة التى ترد الأشياء إلى أصلها مهما امتزجت.
تأخذ الفنجان من يد الأم التى يحيرها سكون ابنتها ونظراتها الشاردة تبتسم كلتاهما للأخرى. وتخرج الأم وتبقى مع إحساسها بضياع جزء منها، شئ فى نفسها تفتقده كأنما تسرب منها إلى أظافرها، أو من أطراف شعرها المقصوص حديثاً، تأخذ الرشفة الأولى ينبثق فى ذهنها سؤال:
” هل مزجت والدتها البن بالحبهان أم لا ؟
وحتى الرشفة الأخيرة من الفنجان لا تستطيع تحديد إجابة السؤال بنعم أو لا.
تساؤلها الحائر يجعلها تعرف ما تاه منها، لكنه لا يرد ضالتها التى كانت كانت لها فى الأيام الماضية ولم تتخلى عنها أو تخذلها أبداً، حتى وهى داخل غرفته المتكلفة .. ببابها المعتنى بطلائه وبجواره اللافته النحاسية التى تبرق بصفته ناظراً المدرسة وجدرانها المزخرفة بخليط من الصور، آيات قرآنية وصور آثار فرعونية وفى مواجهتها تماماً صورة الرئيس، ومن الرأس الكائن تحت المذهب تلقت للمرة الأولى ابتسامته كطوفان من اللزوجة أغرقها وأعاق حركتها، أربكها أكثر مما طمأنها، أبطأ تنفسها، وحتي يمكن للقلب أن يقاوم زادت ضرباته حتى خشيت أن يسمعها وهو يمد يده
إليها، ويضغط عليها ضغطة حملت عشرات الرسائل فترجمتها، ودلتها على موطن الخطر فتقوقعت على نفسها، وصدت ربما بحقيبتها التى وضعتها أمام ساقيها بعض الأشعة التى بثتها عيناه، تجاهلته، ولم تغضب لأن نظراته لم تكن موجهة لذاتها بل لكل ما تمتلكه المرأة ويفتقده الرجل. تحفظها وصمتها أغراه فأوصلها بنفسه – وهو ناظر المدرسة وهى الزائرة الصحية – إلى حجرتها المفتوحة على فناء المدرسة حتى يكون الوصول اليها سهلا إذا أصيبت طالبة فى حصة الألعاب أو شعرت بدوار أو مغص.
ضايقتها رائحة عرقه الصارخ وهو يسير بجوارها كأنها نضح برميل ملئ بالعفن وذكرها بشئ لم تره أبداً، وربطت بينهما لأسباب لا تعرفها فأصبح اسمه المحفور فى ذاكرتها ” برميل دهن الخنزير ” ولا تدرى لماذا قرنته بالخنزير، ربما لأنها تسمع أن الخنازير تعيش على القمامة وطبيعى أن الوعاء لا ينضح إلا بما فيه.
وقد أظهر الرجل باطنه بالأمس. وفى إشارة إلى ضيقها بلافتات المبايعة التى غطت حوائط المدرسة واختفاء الكلمات الحكيمة والابيات الشعرية التى كانت قراءتها مصدر راحة وأحياناً مؤازرة لها.
وما نيل المطالب بالتمنى ..
النظافة من الايمان
كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
واجهها قائلاً:
– المدرسة مدرسة الحكومة والذى علق اللافتات الحكومة وإذا زاد كلام فالقانون هو الذى سيعاقبك فهمت؟
وقبل ان تسأله ألا تكفى الشوارع..؟
استطرد:
-ألم يدفع والدك الحاج خمسمائة جنية وعلق اللافتة بنفسه علي المحل مع عمال البلدية.. بلاش خيابة.
ردت بألم:
– لكن المدرسة لجنة واللجنة يجب أن تكون محايدة.
– نعم لجنة وستأتين غداً، حتى أصغر عامل سيحضر، التوقيع مع العلامة أو يوم جزا.
اقترب منها وربت على كتفها: اسمعى الكلام ماذا حدث لك ؟ منذ جئت المدرسة وأنت إنسانة هادئة ومطيعة.
مسحت كتفها بالمنديل الورقى الذى بيدها بمجرد خروجها من مكتبه.لا تفهم فىالسياسة ولا تعنيها فى شئ ولكنها تكره الاحتلال والغصب وفرض الأمر الواقع وهي مقهورة حتى البكاء، وسجينة صوت ناقوس لا يمل طرقه عملاق نسى ذراعه ومطرقته، حتى القطارات ملت الطريق الواحد وخرجت عن القضبان أكثر من مرة ولم ينتبه أحد.
آه.. ثمانية عشرة عاماً منذ أن دخلت النظام المدرسى وهي فى السادسة وأصبحت ترساً فى آلة الزمن وهى تسير على الطريق لم تتغيب، وهى مريضة لا تغيب، أمها مريضة لا تغيب، حصلت على الشهادة الابتدائية والاعدادية وتخرجت من المعهد العالى للتمريض واصبحت موظفة، مجرد ترس أكبر فى آله النظام ولا تغيب.
تعطى وجهها للحائط، تعود للعبتها القديمة، التى تمارسها فى الصباح قبل أن تفتح امها الشباك وتبدد الشمس كل الخيالات، وفى المساء تبحث عن خيالات جديدة. فى الحائط القديم المدهون بالجير الملاصق لسريرها مناطق باهتة ومناطق لم تؤثر فيها السنون، يصبح الحائط شاشة عرض.. منطقة داكنة فى الحائط الأخضر تشبه الأسطوانة تتحول لبرميل “برميل دهن الخنزير ” يريد أن يتزوجها” تخرج لسانها للحائط فى حركة صبيانية تضحك لها، يتحول إلى رأس أسد يكشر عن أنيابه يطاردها كالملل والأعمدة واللافتات، يقفز فى بحيرة ينثر رزازا يتساقط على شعر الرجل العمود، فينفض شعره، وتتساقط القطرات على اللافتة التى يحملها بالاشتراك مع عمود آخر يزيحهما الرجل ذو النسر ويأمر بعمودين جديدين لاتتبول على رأسهما اللافتات.
لا تكتفى برسم الأشكال أو تخيلها، بمرور الوقت تصبح جزءاً منها تأخذ دور البطولة أحياناً وأحياناً أخرى ترضى بدور الكومبارس، تستدعى كل النبلاء والفرسان وحتى دون كيشوت وطواحين الهواء كل الأميرات المظلومات تتمثلهن سندريلا وزوجة أبيها الشريرة وأميرة الثلج، تريحها الحكايات وتنسيها أن هناك من تهرب منه.
تسمع طرقاُ على باب حجرتها، يخرجها صوت أخيها الصاخب من نفسها تنمحى كل الخيالات. وأخوها يحكى عن العربات والأعلام والهتافات.
قبل الخامسة بنصف ساعة يرن جرس التليفون، من المدرسة يأتى صوته واضحاً قاطعاً
– مازالت أمامك فرصة.. أريد أن أعرف ردك
تضع السماعة بهدوء وتطلب فنجان القهوة من أمها. يمازحها أخوها:
-ضاع نصف عمرك لأنك لم تخرجى اليوم.
تبتسم له وهى تأخذ أول رشفة من فنجان قهوتها مستمتعة بمزيج البن والحبهان وتجيبه:
— يكفينى النصف الآخر.