لقد نجا فيلم “غزل البنات” من فخ المباشرة (البحتة) وجنح بقوة وعبقرية إلى عمق البهجة والمتعة.
الرسائل التي أراد أن يوصلها صناع الفيلم وخصوصا أنور وجدي وبديع خيري مؤلفا الفيلم تبدو واضحة للقاصي والداني، ولا تخلو من طبقية بحتة، خصوصا في نظرة الأستاذ حمام “نجيب الريحاني”، لنفسه طوال الفيلم على أنه كائن أقل، ينتمي إلى الطبقة الكادحة المطحونة، يتقاضى جنيهات قليلة نتيجة عمله كمدرس ابتدائي في مدرسة يعامله فيها الطلاب باستهزاء.
حتى مع انتقاله إلى قصر الباشا “سليمان نجيب” لإعطاء ابنته درسا خصوصيا في اللغة العربية، وتقاضيه أضعاف ما كان يتحصل عليه من عمله كمدرس، ظلت هذه النظرة الدونية تلازمه، لاسيما في شعوره المتنامي بحب ليلى “ليلى مراد”، طوال الفيلم.
ليلى أيضا كان لديها شعور مستقر في وجدانها بطبقتها في تعاملها مع الأستاذ حمام، ظهرت كثيرا في أحداث الفيلم، بداية من حادث اتهامها بسرقة “أسورتها الألماس”، مرورا بمصداتها المتواصلة لشعوره بحبها.
“أنا لو من 18 سنة بعلم كلاب.. كنت بقيت دلوقتي من الأعيان” هي الجملة التي قالها الأستاذ حمام عندما علم بمرتب مربي الكلب في بيت الباشا الذي بلغ 30 جنيها، في مرثية واضحة لمهنته ولحاله.
التعامل الطبقي يدهشك أيضا منذ تتر الفيلم والذي تتوسط فيه كلمة “بك” اسمي سليمان نجيب، ويوسف وهبي، والذي سبق اسمه بجملة “صاحب العزة”. ربما كان هذا متبعا قبل ثورة يوليو، مع عدد قليل من نجوم السينما الذين نالوا “البكوية”.
إذا أردت أن ترصد أحد أهم خطايا ما يسميه أهل الفن بـ”الكاستينج” فأنت ولا شك سوف تلحظه في هذا الفيلم. فاختيار ليلى مراد في دور فتاة لازالت في المرحلة التوجيهية أو (الثانوية)، خطأ لا يغتفر. أما إذا أردت أن ترصد أحد أهم حالة غفران من الجمهور على خطأ سينمائي فلاشك هو حالة تأقلم المشاهد المصري طوال أكثر من 60 عاما مع ظهور ليلى مراد في الفيلم على أنها فتاة تبلغ من العمر (18 سنة)!.
في الفيلم عدد من المشاهد والأغاني ظلت محفورة في وجدان الجمهور المصري.
أولها كان الظهور الأول لنجيب الريحاني، في حصة القراءة أو (المطالعة) كما كانت تسمى، مع طالبات المدرسة الابتدائية، في نقدٍ واضح لتعامل المصريين وقتها مع اللغة العربية، فـ(ليلى) بنت القصر لا تطيقها، وكذا بنات المدرسة اللاتي يتضح أنهن من طبقات أخرى، حتى أن الأستاذ حمام وهو يتحدث إلى ناظر المدرسة في نهاية مشهد (الفصل)، والأخير يطالبه بارتفاع مستوى الطالبات أكثر، رد عليه بجملة: “كتر خير الدنيا.. أنا استلمتهم وماكانوش بينطقوا عربي خالص.. دول كانوا زي أولاد الأروام”، والأروام هم (الأرمن) الذين كانوا يعيشون في مصر في هذا الوقت، واستشهد الأستاذ حمام بهم للسانهم الذي كان ينطق العربية بلغة غير صحيحة.
المشهد الأول للأستاذ حمام في قصر الباشا نموذجا للكوميديا عندما تنبع من سوء التفاهم. فحمام أعتقد أن مقدم القهوة ومربي الكلب هما الباشا، بسبب هندامهما ومظهرهما اللافت والأنيق، بينما أعتقد أن الباشا (الذي كان يرتدي ملابس جنايني)، وهو المشهد الذي أظهر فيه الريحاني عبقريته في التمثيل، فكان متواضعا خاضعا للرجلين، ومشاكسا مع ليلى، ومهاجما شرسا للباشا، ومعبرا عن فقره ومعاناته وأمانته عندما اتهموه بسرقة الأسورة، وعزيز النفس رافضا لمقولة الباشا “مرزوق أفندي.. إدي له حاجة”، ويائسا بائسا في الحوار الذي دار بينه وبين ليلى بعدما طرده الباشا من القصر.
“أخوات كان” كانت سببا مشادة كلامية بين الأستاذ حمام وبين الباشا، الذي أضاف أختا جديدة للفعل الناسخ، وهي “ما انحل”، وأصر على ذلك برغم رفض الأستاذ حمام، إلا أن الأخير، خرج ورطة مخالفة الباشا بقوله “قد تكون أختا غير شقيقة”.
مشهد ظهور يوسف وهبي ومحمد عبدالوهاب (بشخصيتهما الحقيقية) في الفيلم لا ينسى ومحفور في الوجدان. ربما اختيار أنور وجدي ليوسف وهبي لكي تـُلقى على لسانه رسالة الفيلم الرئيسية موفق جدا، لمكانته ومكانه عند المتلقي، وكذا أغنية “عاشق الروح” التي غناها موسيقار الأجيال في مشاهد الفيلم الأخيرة، والتي قدم فيها حسين السيد فلسفته الخاصة في الحب، والتي حكاها الشاعر الكبير طوال أغنيات الفيلم بشكل درامي متصاعد منذ “الدنيا غنوة.. نغمتها حلوة” مرورا بـ”الحب الجميل.. للي عايش فيه”، و”حاسس بمصيبة جاية لي”، و”أما أنا مهما جرى.. هفضل أصون عهد الهوى”، وانتهاءً بـ”عاشق الروح”، حتى أغنيات “اتمخطري يا خيل”، و”أبجد هوز”، بالرغم من شذوذها عن سياق الفلسفة التي أراد الشاعر تقديمها في أغنيات الفيلم، إلا أنها جاءت بأثرها القوي في التعريف بشخصيات وعلاقات الأبطال في الفيلم.
الظهور الوامض لمحمود المليجي وفريد شوقي وستيفان روستي وزينات صدقي في الحانة في مشهد من أهم مشاهد الفيلم، عندما كانت ليلى تقابل أنور (محمود المليجي)، كان مفيدا من الناحية الجماهيرية، لاسيما وأن الريحاني قدم فيه الوجبة الكوميدية الأدسم في الفيلم، عندما استخدم تكرار تيمة خوفه على “الطربوش” الذي كان يعطيه لعامل الحانة، وكذا مناداته وصراخه على “الشاويش” عندما كان يُطرد من الحانة إثر اشتباك لا يتم دائما مع أنور لتخليص ليلى منه.
حسنا فعل أنور وجدي كـ”ممثل”، عندما قلل جرعة ظهوره على الشاشة وتفرغ لعمله كـ”مخرج”، فبانت بصماته الواضحة الرائعة، في واحد من أهم أعماله الإخراجية، أو ربما الأهم على الإطلاق بين أعماله، وهو يستحق أن يُحيا بتحية أكثر من تلك التي حيانا بها في هذا الفيلم المهم.
فلسفة البهجة سوف تظل أهم ما حرصت على تقديمه كتيبة نجوم “غزل البنات”، ليصبح واحدا من أهم الأعمال في تاريخ السينما المصرية، على الرغم من مباشرة رسالته وعدم مواءمتها لكل العصور.