إنَّ الوَعْي بالتَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ يلتحِمُ مَعَ الوَعْي بالمَكانِ ، وَلا ينفصِلُ الوَعْيُ بالذَّاتِ عنْ الوَعْي بالمَكَانِ ، في عَمليَّةِ بناءِ المُتخيَّلِ المَكَانيِّ ؛ فيتحقَّقُ الوجودُ المَعِيشُ في مُتخَيَّلٍ مَكانيٍّ للعَالمِ ، تتجسَّدُ فيْهِ عناصِرُ وَتحوُّلاتٌ تاريخيَّةٌ ، وَتتبدَّى الصُّورُ الشِّعريَّةُ مكانيَّةً ، عَبْرَ الوَعْي بالذَّاتِ ، في المَكَانِ ، وَبناء المُتخيَّلِ المَكانيّ ، ليْسَ باعْتبارِهِ فَضَاءً حاضِنًا للتَّجربَةِ فقطْ ؛ بلْ باعْتبارِهِ مُكوِّنًا منْ مُكوِّنَاتِ التَّجربَةِ
وَتحضُرُ مُفرَدَاتُ وَتفاصِيْلُ المَكَانِ المَدِينِيِّ ، في خِطَابِ : مَمْلكَةِ الحَوَائِطِ ، حضورًا وَاضِحًا ؛ في صُورَةِ شَوَارعَ وَمَقاهٍ وَشُخوصٍ ، وَتتبدَّى أسْطَرَةُ الوَاقعِ المَعِيْشِ ، على مِحْوَرَيْنِ :
– أسْطَرَة المَكَانِ :
يَحْضُرُ المَكَانُ المِصْريُّ حُضورًا لافتًا في نَسِيْجِ النَّصِّ ؛ فتتبدَّى عناصِرُ مِصْريَّةٌ ؛ مَكانيَّةٌ وَثقافيَّةٌ وَشخوصٌ مِصْريَّةٌ ؛ فتتبدَّى شُبْرَا ، وَمَقْهَى رِيْش ، وَمَقْهَى زَهْرَةِ البُسْتانِ ، وَبَارُ الأُوبرَا ، وَسُورُ الأزبكيَّةُ ، كَمَا تتبدَّى بعضُ رُموزِ هَذَا المَكَانِ البشريَّةِ ، حَيْنئذٍ ، فيتبدَّى الرَّائدُ الطَّليعيُّ : أنور كامل ، ويتبدَّى – بجانبِهِ – أصْدِقاؤهُ : كاملُ التِّلمساني وجورج حنين ورمسيس يُونان ؛ رموزُ حَرَكةِ : الفنِّ وَالحريَّةِ ؛ الفنيَّةِ وَالشِّعريَّةِ التَّقدُّميَّةِ ، ويتبدَّى المَكانُ ثمَّةً منْ منظورٍ أسْطوريٍّ ، يكشِفُ عنْ تاريخيَّتِهِ ، كَمَا في رُؤيتِهِ سُورَ الأزْبكيَّةِ ، في قولِهِ :
” لمْ يكُنْ يفصِلُ بَيْنَ البَارِ وَأوْرَاقِ البَحْثِ سِوَى شَارعٍ صَغِيْرٍ وَاحِدٍ ، عَبَرَهُ فإذَا هُوَ أمَامَ أرْفُفٍ منْ الأوْرَاقِ المَصْفُوفَةِ وَالمُجَلَّدَةِ . هَكَذَا قَرَّرَ أنْ يَبْدَأَ بسُورِ الأزْبكيَّةِ ؛ فمَهْمَا قيْلَ عَمَّا آلَ إليْهِ منْ فَسَادٍ ، فهُوَ – في نهَايَةِ الأمْرِ – السُّورُ الأكْثَرُ تسَامُحًا منْ بقيَّةِ الأسْوَارِ ، وَإذَا مَا تطَّلعْتَ إلى مَا فيْهِ بقلْبٍ مفتوحٍ تَسَلَّلْتَ إليْكَ الحِكْمَةُ ، وَصِرْتَ مَعَ الوَقْتِ ليبراليًا أوْ زَاهِدًا ففيْهِ يَرْقُدُ – جَنْبًا إلى جَنْبٍ – أشْرَسُ الأعْدَاءِ الأيدلوجيِّيْنَ ، وَتَتَحَاورُ – في ألفَةٍ – سَائرُ الأزْمِنَةِ وَالمَرَاحِلِ التَّاريخيَّةِ ؛ الَّتي ادَّعُوا زَوَالَهَا ، عِنْدَهَا سَتَكْتَشِفُ أنْ لا شَيءَ يموتُ سِوَى الإنْسَانِ ، كَمَا سَتَرَى مَآلَ جَامِعِي الأوْرَاقِ وَالكُتُبِ ؛ فتشْعُر – بينَكَ وَبَيْنَ نفسِكَ – بالحَسَدِ تِجَاهَ أُولئكَ الأذْكيَاءِ الَّذين انْكَشَفَتْ أمَامَهُمْ الأسْتَارُ ، فَعَجَنُوا الكُتُبَ ؛ لِتُخْرِجَ للنَّاسِ مَنادِيْلَ وَشَرَاشِفَ منْ الكِلينكسِ المُلوَّنِ ، كَمَا لابُدَّ سَتُعِيدُ النَّظرَ في أُولئكَ الَّذين يُطَارِدُونَ جَامِعِي الكُتُبِ ، وَيَزُجُّونَ بهِمْ خَلْفَ أسْوَارٍ لا تُشْبِهُ سُورَ الأزْبكيَّةِ .” (1)
يَرْصُدُ طه هُنَا تَفَاصِيْلَ مَشْهَدٍ ذَوَتْ غالبيَّةُ مَعَالمِهِ التَّاريخيَّةِ ، رَصْدًا مَوْضُوعيًّا دَقيقًا ، في سَرْدٍ شِعْريٍّ بَصَريٍّ ، يَلْتَحِمُ فيْهِ مَا هُوَ زَمَانيٌّ بمَا هُوَ مَكَانيٌّ بمَا هُوَ إنسَانيٌّ ، في جَديلةٍ شِعريَّةٍ تُجَسِّدُ تاريخيَّةَ المَكَانِ .
– أسْطَرَةُ التَّجربَةِ المَعِيْشَةِ :
تتبدَّى التَّجربَةُ الإنسَانيَّةُ الذَّاتيَّةُ المَعِيشَةُ ، لدَى طه ، شَديدَةَ الوُضُوحِ ، تلتحِمُ بالتَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، وَبتفاصِيْلِ الحَيَاةِ المَعِيْشَةِ ، وَيَجْنَحُ الخِطابُ إلى تَشْكيْلِ الصُّورِ الشَّخصيَّةِ منْ تفاصِيْلِ اليَوْمِيِّ ، وَالشَّخصِيِّ المَعِيشِيِّ الحَيَاتيِّ ، تشكِيْلاً يكشِفُ عنْ مَنْظُورٍ أُسْطوريٍّ لِلْفِعْلِ الإنسَانيِّ البسِيْطِ ، في أجْوَاءٍ شَعبيَّةٍ ، وَتتأسْطَرُ التَّجربَةُ الشَّخصيَّةُ في خِطابِ طه ، بعِدَّةِ طَرَائقَ ؛ منْهَا أسْطرتُهُ لطفولتِهِ :
” لأنَّكَ كُنْتَ تلبسُ مَرْيلةً منْ الدَّمُّورِ
بهَا بُقعتانِ منْ الحِبْرِ البَاهِتِ
وَعِدَّةُ خُطوطٍ تتقاطَعُ كلُّهَا في الصَّدرِ
لكنَّهَا لا تُشْبِهُ تِلكَ الخَرِيطَةَ
الَّتي كُنْتَ تحفظُهَا عنْ ظَهْرِ قلْبٍ
إذنْ
فقدْ كَانَ لكَ وَطَنٌ حَقِيقيٌّ .” (2)
.
” لأنَّكَ كُنْتَ تُجِيْدُ قَذْفَ حِجَارتَكَ على الأعْدَاءِ
منْ المُدَرِّسِيْنَ وَعِيَالِ المَدْرَسَةِ المُجَاورَةِ
وَكُنْتَ تتسلَّلُ إلى حَدِيقَةِ الرَّجلِ الغَنِّيِّ
دُونَ أنْ يُصْفَعَ قَفَاكَ
سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ
إذَنْ
فقدْ كانَ لكَ وَطَنٌ حَقِيقيٌّ .” (3)
وَمِنْهَا ، كَذلكَ ، أسْطرتُهُ لحياتِهِ في شُبْرَا ، وَلشُبْرَا ذَاتِهَا ، وَمنْ ذَلكَ قولُهُ :
” ذَاتَ صَبَاحٍ آخَر
اسْتيقَظَ مَلِكٌ
وَنَظَرَ حَوَاليْهِ
فلمْ يَرَ سَتَائرَ تَحْجُبُ سَرِيْرَهُ
وَلا عَلَمًا يُرَفْرِفُ بجِوَارِ نافذتِهِ
وَلمْ يَجِدْ فَخْذًا نَاعِمًا بَيْنَ سَاقيْهِ
وَلا سجَّادَةً تُغَطِيِّ الأعْشَابَ بدَوْرَةِ المِيَاهِ
وَلمْ يَسْمَعْ هَمْهَمَةَ الحُرَّاسِ
وَلا قَعْقَعَةَ سِلاحِهِمْ
وَهَكَذَا
قرَّرَ أنْ يكونَ مَلِكًا على شُبْرَا
تَمَامًا كمَا في أحْلامِهِ
فكَانَتْ شُبْرَا
وَكَانَ عَلَمُهَا المَصْنُوعُ منْ لفائِفِ الأطْفَالِ
وَمَحَارِمِ النِّسَاءِ
.
ذَاتَ صَبَاحٍ آخَر
اسْتَيْقَظَ جِنِرَالٌ
وَنَظَرَ حَوَاليْهِ
فلَمْ يَجِدْ خَنْدَقًا حَوْلَ سَرِيْرِهِ
وَلا قُمَاشًا كاكيًّا على جَسَدِهِ
وَلا خِنْجَرًا تَحْتَ وِسَادَتِهِ
وَلمْ يَرَ حُدُودًا يُدَافِعُ عَنْهَا
وَلا أعْدَاءً يُحَاربُهُمْ
وَلا خَرِيطَةً يُشِيْرُ إليْهَا بعَصَاهُ
وَهَكَذَا
قرَّرَ أنْ يكونَ جِنِرَالاً لشُبْرَا
تَمَامًا كمَا كَانَ في أحْلامِهِ
فكانَتْ جِنِرَاليَّة شُبْرَا
وَكَانَتْ حُدُودُهَا الَّتي تمتدُّ منْ تِمْثَالِ رَمْسِيْسَ جنوبًا
إلى موقفِ التِّرَامِ شَمَالاً
.
ذَاتَ صَبَاحٍ أخِيْر
اسْتَيْقَظَ دِكْتَاتُورٌ
وَنَظَرَ حَوَاليْهِ
فلمْ يَجِدْ ثَوْرَةً تُثقِلُ حَقَائِبَ التَّلامِيْذِ
وَلا حَرْبًا وَطنيَّةً تُقلِّلُ رُوَّادَ المَقَاهِي
وَلمْ يَرَ خَوَنَةً يَأمُرُ بإعْدَامِهِمْ
وَلا مُؤامَرَةً تُحْبِطُهَا أجْهِزَةُ الإعْلاَمِ
وَلمْ يَسْمَعْ شِعَارًا يُعَبِّئُ الجَمَاهِيْرَ
وَلا أُغنيَةً تتحدَّثُ عنْ فحولتِهِ
وَهَكَذَا
قرَّرَ أنْ يكونَ زَعِيْمًا لشُبْرَا
تَمَامًا كمَا رَأى في أحْلامِهِ
فكَانَتْ شُبْرَا
أوَّل عَاصِمَةٍ في التَّاريْخِ
لِلْعَالَمِ الثَّالِثِ .”(4)
لا تَنْفَصِلُ أُسْطورَةُ الذَّاتِ الإنسَانيَّةُ ، هُنَا ، عنْ أُسْطورَةِ شُبْرَا ؛ بلْ تلتحِمُ مَعَهَا ، في التَّشكيْلِ المَكَانيِّ لِلْخِطَابِ ، وَيَتَجَلَّى المَكَانُ الجَمَاليُّ ، هُنَا ، باعْتِباَرِهِ مَظْهَرًا منْ مَظَاهِرِ نصِّ الهُويَّةِ ، وَيَتَجَلَّى الحُضُورُ الإنسَانيُّ فيْهِ مُتفاعِلاً مَعَ أشْيَاءِ الوَاقِعِ وَمَوْجُودَاتِهِ ، وَتكْشِفُ الشِّعريَّةُ المَكانيَّةُ لدَى طه ، هُنَا – كمَا في مُجْمَلِ شِعْرِهِ النَّثريِّ – عنْ مَدِينيَّةِ المَنْظورِ ، وَهُوَ يَرْصُدُ تفاصِيْلَ هَذَا الوَاقِعِ المَعِيْشِ بأدَاءٍ حِيَادِيٍّ وَاضِحٍ ، وَبسَرْدٍ بَصَريٍّ يُشَدِّدُ – بشَكْلٍ وَاضِحٍ – على شِعريَّةِ المَجَازِ السَّرديِّ وَالصُّورَةِ السَّرديَّةِ المَكَانيَّةِ وَأْسَطَرَةِ الشَّخصِيِّ اليَوْمِيِّ وَالمَكانِيِّ .
………………………
الهوامش والإحالات:
(1) أحمد طه – مَمْلكةُ الحَوائِطِ – ص : 27 الطَّبعة الأولى – مكتبة مدبولي 1993- ص : 27 ، وقد صَدَرَتْ قبلَ هذِهِ الطَّبعة طبعةٌ تجريبيَّةٌ ، قامَ الشَّاعر بتوزيعِهَا على أصْدِقائِهِ ، ثمَّ صَدَرَتْ طبعةٌ ثانيةٌ ، في مكتبة الأسرة ، بالهيئة العامة للكتاب ، في عام 2012 ، ونعتمدُ هُنا على الطَّبعةِ الأولى .
(2) السَّابق – ص : 68 .
(3) السَّابق – ص ص : 68- 69 .
(4) السَّابق – ص ص : 57- 59 .