كانت حكايات جدتي تفجر داخلي أسئلة على الدوام، تلك الأسئلة التي كبرت معي وأرقتني ” كأنما الحياة انفجرت دفعة واحدة من مضيق”، لقد ابتدأت إذن رحلة المعاناة، وابتدأ يوقظني في منتصف الليل صوت عميق يصرخ داخلي، وما من أحد يسمعني في هذا الكون الذي لا أستطيع سبر غوره أو معرفة حدوده؟ أنا هنا، كائن صغير، ذرة رمل في صحراء شاسعة، لكني جزء من هذا العالم الذي يحيرني بأسئلته… كبرتُ قليلا، وقرأت كثيرا، وكلما قرأت أكثر، كنت أشعر كم أنا وحيد في هذا العالم. إن باباً كبيراً من الأسئلة يُفتح على هوة سحيقة في عقلي؛ هذا العالم – الذي سيستمر بي أو دوني- من أين بدأ؟ وكيف كان شكله حين وُلد؟ ما الخيط الدقيق الذي يربط بين الإنسان والكائنات والأشياء في هذا الكون، وما الحد الفاصل بينه وبينها؟ وما معنى أن يولد الإنسان ليعيش حياة قصيرة، ثم يطمر وينتهي ذكره ليولد غيره؟
في الصغر، وقبل أن تغزو أضواء الكهرباء شوارع الواحة وأزقتها، كان الفانوس المُعَلق على باب البيت يستفزني ويُعمل أفكاري: ما قيمة ذلك الضوء الخافت الذي يضيء دائرة صغيرة حوله، لتتضح من خلالها بوابة البيت، ثم تعم الظلمة في الزقاق؟ لكني عرفتُ فيما بعد أن الفانوس يعطي كل ضوءه ولا يستأثر لنفسه بشيء، وبعد أن كبرت قليلا عرفت أنه يكفي الفانوس شرفا أن يدل الناس على الطريق.
كنت صغيرا عندما فاجأتني في الحقل عتمة المساء مثل ريح عاتية، وفرّ النهار إلى قمم الجبال ثم اختفى تماما، أحكم الليل صمته الكثيف على كل الموجودات وكمم أفواهها، ولم يعد يُسمع في هذا الكون سوى صمت زحف الهوام تحت أوراق الأشجار الجافة.. وهناك تحت سماء الواحة المنكمشة، تساقط الظلام من السقوف ناسجا ستائره السوداء على جدران البيوت.
أضأتُ الفانوس، فصنع هالة صغيرة من الضوء، وتكاثرت حوله فراشات لا حصر لها. جلستُ أتأملها شاردا، لم أعرف من أين أتت، ولم أعرف سر وجود مثل تلك الكائنات.. إن لم تكن تضر ولا تنفع فلماذا خُلقت من الأصل؟ الفراشات الصغيرة تندفع نحو الضوء محاولة الوصول إلى حقيقته ، ومعرفة كنهه، لكنها تصطدم بزجاج الفانوس المحكم حول فتيلة الضوء وترتد خائبة لتعيد الكرة من جديد، ولا تيأس أبدا. فكرت، بينما عيناي ثابتتان في هذا العالم الصغير الذي يضج أمامي بالحركة، وضوء الفانوس ينعكس على حدقتي عينيي: ” هل هذا هو السعي الأبدي لمعرفة الحقيقة؟ هل هي محاولة للوصول إلى جوهر الأشياء؟ ، هل هذا هو الطموح والسعي المتواصل نحو الهدف/ الحلم، والذود عنه بطرق سليمة ومشروعة؟ ترن الآن في أذني مقولة نوفاليس ” إن الطريق الحقيقي يمضي نحو الداخل”..آه.. إنها الأسئلة ذاتها مرة أخرى.
إن كنت قد رأيت نفسي ذات يوم فراشة تندفع نحو مصدر الضوء، محاولة الوصول إلى حقيقته، فلابد أن أكون قد اهتديت إلى الضوء أولا. الأسئلة هي ذلك الضوء الذي يعطينا مفاتيح الطرق المغلقة، يمنحنا شرعية الدخول إلى العالم الواسع الذي لا نعرفه، قال جوستاين جاردر يوما” إن سؤالا واحدا يفجر ما لا يفجره مئة جواب.
أردتُ أن أقول: أن الموهبة يمنحها الله لأناس كُثر لكن القليلين منهم من يستطيعون أن يصلوا بدأبهم وجهدهم إلى المنبع الحقيقي لذلك الضوء، الوصول إلى أدب خال من شوائب العصر، إلى أدب لا يفسده الزمن، ولا متغيرات الأمور..
إن الأدب الحقيقي هو جوهر الثقافات. لم أستطع يوما أن أطرح أحزاني بعيدا وألقي رأسي على راحة الليل وأستريح. لكنني أجزم أنني حين أكتب إنما أحتوي بين أنفاسي رائحة الحياة بعطرها وراحتها، بكل قسوتها، بأفراحها وأتراحها. بعد أن سبرت غور ذاتي شعرت أني لم أعد وحيدا في هذا العالم. كيف يحدث هذا والكتابة تتخذ مني صديقا يأنس بالدفء بين كل الموجودات ، فتسري في دمي خضرة الأشجار، وتلمع في عيني أضواء النجوم البعيدة. إنه الأدب، أوقعني في دوامة سحره، ووقف بعيدا، يتفرج.
لقد بدأتُ شاعرا وما زلتُ أكتب الشعر بين الحين والآخر ولن أكف عن كتابته. ربما لا توجد لدي أسباب جاهزة ومباشرة تفسر اتجاهي لكتابة الرواية، إلا أنني أظن أنه لم يكن اختياري في الأساس، لأنك لا تعرف سر شغفك بهذا اللون من الكتابة أو ذاك مثلما لا تعرف سر شغفك بأنواع معينة من الطعام دون غيرها.إذن لم يكن اختياري، بل كان اختيار الكتابة ذاتها، تلفتت حولها مرارا، ثم أشارت إليّ؛ هي من اختارتني. لا أدري إذا ما كانت هذه الكلمات شافية، أقصد أنني لم أعقد العزم على كتابة الرواية فجأة وإنما كان ثمة إحساس يدفعني لا إراديا تجاه هذا اللون من الأدب. مغرمٌ أنا بالرواية منذ زمن مبكر.. ربما تمنيت يوما ما أن أصبح روائياً وكنت أغبط كُتّاب الرواية على ما يخلقونه من عوالم، وما يفردونه من مساحات مغايرة وجذابة. في الرواية، يصبح اكتمال اللوحة له طعم آخر.. حتى أنني تأكدت في مرحلة ما، أنه يتحتم علي أن أكتب الرواية.. لماذا؟ لأنني أعتقد أن الرواية هي اللون الأدبي الوحيد الذي يستطيع ببراعة أن يُظهر واحتي للنور قبل أن يطمرها النسيان. هكذا أستطيع أن أكتب عن علاقات الناس، آمالهم الصغيرة وطموحاتهم التي تناسب حجم واحتهم، وخلافاتهم أيضا. أستطيع أن أغوص في عمق الواحة بما تحمل من إرث ثقافي وشعبي زاخر، بدون أن تحكمني آليات كتابة القصيدة وتقيد حركتي في فضائها. وعليه، كنت أعرف أن الشعر لن يفي باحتياجي الشخصي المُلح من هذه الناحية. رغم ذلك أنا أكتب الشعر جنبا إلى جنب مع الرواية، ذلك لأنني أرى أن القصيدة متى ألحت وهطل غيمها فلا مناص عندئذ من إفساح السبيل لها. أما الرواية فإنها تعتمد اعتمادا كبيرا – بالنسبة لي – على الإعداد والتخطيط القبليّ، وجمع المعلومات أيضا. أعمل على رواية في الفترة الحالية إلا أن غيمة الشعر تظللني دائما، ولا تكف عن الهطول.
لقد ولدت في تلك الواحة النائية وسأموت في أرضها، وآمل أن أدفن في حضن ثراها عندما يأذن الله بذلك. سأحمل تلك الواحة على كتفي، أكتب عن ناسها، أحكي أحلامهم الكبرى، آمالهم ومخاوفهم، إيماءاتهم وخبايا صدورهم، سأحمل تلك الواحة على كتفي، ولن أحط رحالي، حتى يأذن الله بذلك.
لقد شعرتُ بعد أن كتبت روايتي الأولى ،” الشقوق”، أن الكلام انتهى، برغم ما تحمل تلك التجربة الأولى من عثرات إلا أني كنت أكثر الناس سعادة بها، لكني كنت قلقا حيال ما سأكتبه بعد ذلك، لكنني أنهيت الرواية الثانية” باب للخروج” دون أن أشعر كيف ومتى بدأت. ثم شعرت بعدها أن هناك كلاما كثيرا مهما وحيوات متعددة لم أتعرض لها بعد، فجاءت روايتي الثالثة” الهبوط لأسفل ببطء”، وهاأنذا بعد أن انتهيت من طباعة ثلاثة دواوين شعرية، وأربع روايات، في دور نشر مختلفة. وبعد أن انتهيت من مخطوطين لروايتين جديدتين ما زلت أشعر أنني بالكاد تعلمتُ كيف أضع قدمي على أول درجة من سُلم الحياة، ما زلت أشعر أن عليّ أن أجتهد أكثر، أن أتعلم كيف تصبح نظرتي للكون أكثر اتساعا، أن تصبح مشاعري وأفكاري أكثر إنسانية.
أود أن أؤكد على أن الأدب هو خلق هام ناتج عن تراكم العلاقات بين الإنسان والمكان. يحفر فيه المكان من ملامحه وخصائصه كما فعل ذلك في العادات والتقاليد، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح عند أهل الواحات في منحوتاتهم وأزيائهم وفنونهم المعمارية وأدواتهم الزراعية ومصنوعاتهم الحرفية وفنونهم الغنائية وآدابهم الشعرية والنثرية ومعارفهم المختلفة. لا شك أن الفاعل المؤثر الأول في تلك الثقافة هو المكان، ومنه استقيت أفكار رواياتي وأجواء قصائدي. إن الفن الذي لا يتماهى مع المكان هو فن مبتور، بلا قيمة كبيرة. إذ ما فائدة أن أفرد أجنحتي وأحلق في عالم “فانتازي” مشوه، لا يأبه كثيرا بمخاوفي وآمالي؟ يتحتم على الأدب أن يضع العالم الذي نعيش فيه تحت مجهر ضخم لنرى أقل شهقة فرح، وأصغر إيماءة، لنرى كل تفاصيل الرحلة في كل الأماكن في الوقت ذاته. يتحتم على الأدب أن يقبض على مشرطه بمهارة، يجرح في العُمق دون أن يؤلم الجسد.