الغرفة رقم 7

الغرفة رقم 7
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كانت أمي منشغلة بصحن معدني أبيض ، استقر على حجرها ، تنقر ما بداخله برأس سبابتها في رتابة أشبه بدجاجة تبحث في الأرض .. عندما أحست بوجودي ، رفعت إلي عينين مجهدتين من التحديق في الصحن ، بينما تأرجحت نظارتها في الفراغ إذ لم تجد عند أمي الفطساء أرنبة الأنف لتستقر عليها :

   - لماذا تأخرت ؟ مر بك عدنان ، وانتظرك بلا طائل !

وقبل أن أسأل عن الموضوع ، تابعت تقول :

   – وجد لك عملا معه في الفندق ، يقول إن الشخص الذي يناوب نهارا غادر العمل ، وهم يلحون في إيجاد بديل له في أسرع وقت .. هذه فرصة ، لا تهذرها !!

وخزني هذا التلميح و أحالني إلى ما وقع منذ أسبوعين ، عندما حضرت إلى مقر الاختبار الكتابي لمباراة موظفي الجماعات المحلية ، و اكتشفت آسفا أني لا أحمل بطاقتي الوطنية.. فضاعت الوظيفة بعدما كانت متحققة في اعتقاد أمي، كأن المباراة نظمت خصيصا من أجلي !!

      استيقظت باكرا جدا ، حتى لا تضيع الفرصة ، حريصاعلى تواجدي أمام باب الفندق في السابعة . كان الصبح بردائه البنفسجي يطل في استحياء من جهة الشرق ، و وجوه المارة لم تتخلص بعد من بقايا النوم ، يعلوها شحوب باهت جعلها متشابهة .. نزلت من سيارة الأجرة بالحي الإداري ، أمام ولاية الأمن ، قصدت ساحة الأمم ، وانعطفت يسارا باتجاه فندق الشرف. كان بناء متواضعا من مخلفات الحماية الدولية بطنجة ، تصميمه أوروبي بأربع طوابق . عندما دلفت إلى الداخل عبر درجات البوابة ، استقبلني سجاد أحمر يكسو أرضية الممر المؤدي إلى مكتب الاستقبال . تبددت مخاوفي مع الابتسامة العريضة لعدنان وهو يصيح بصوته الغليظ :

  – ها قد حضر !

     كان يخاطب عجوزا فاق السبعين ، يقف بجواره عند مدخل حجرة على يمين المكتب ، بينما تصدر عدنان مقر الاستقبال خلف منضدة خشبية بلون البلوط ، وخلف ذراعه اليمنى خزانة بيضاء تدلت منها مفاتيح الغرف .. لم يخرج العجوز عن صمته ، وأرسل إلي نظرة فاحصة من عينيه الذابلتين ، يظللهما حاجبان أبيضان كأنهما من صوف الغنم ، ثم دخل مكتبه . كان يشغل وظيفة المحاسب ، وفي غياب صاحب الفندق ، يصبح ” مسيو العربي ” المتعهد والمسؤول الأول عن سير العمل فيه ..

     أقعدني عدنان بحركة من يده على أريكة بجانبه ، وجلس خلف المكتب ، فسمحت حركته بدخول نور الصباح من نافذة صغيرة كان يحجبها بقامته ، واستقر على الأرضية الحمراء فأحالها إلى مستطيل دموي اللون يخطف الأبصار .. كان عليه أن يشرح لي تفاصيل العمل قبل أن يغادر :

   – المسألة غاية في البساطة .. تستقبل الزبون بوجه بشوش، وتأخذ منه بطاقته إن كان مغربيا، أو جواز سفره إن كان أجنبيا . ثم تسلمه مفتاح الشقة !

      وبحركة سريعة سحب من درج المكتب كناشا فتحه أمامي و دلني على بعض البيانات الخاصة بالزبون . هي مجرد معلومات نجدها عادة في بطاقة التعريف أو جواز السفر :

  – انتبه  ! هذا السجل خاص بالشرطة . سوف يأتي من يطلبه منك و يعيده إليك كل يوم .

    اتخذ وجهه ملامح الجد ، فتغيرت تقاطيعه ، وأحسست به غريبا عني ، بينما توزع انتباهي بين حرصه المبالغ ، و رائحة القهوة المنبعثة من الفنجان المستقر على يمينه تحت نور الصباح ، يحملها البخار المتصاعد في دلال لعوب .. هب واقفا و نظر إلى ساعة يده مبتسما ، فقمت بدوري ، و خطونا بضع خطوات على السجاد الأحمر في اتجاه الباب الخارجي . اعتصر منكبي بذراعه القوية و قال بنبرة هادئة صارمة :

   – بقي أن تعلم الجزء الأخطر في مهمتك ! !

انتزعت نفسي من تحت ذراعه ونظرت في عينيه :

   – أين الخطورة في كل هذا ؟

   – اسمع  ! هذا العمل يناسبك ؛ مريح وسهل ، وباستطاعتك أن تخرج من هنا يوميا بمصروف جيبك فتوفر أجرتك كاملة ! فقط كن حذرا ، لا تسمح لأحد باستغفالك  !

   – كيف ؟ أفصح .. !

   – لا تجمع بين رأسين إلا في الحلال . لا تقبل أعذارا . ولا تغتر بمظاهر الناس ! لا تسلم مفتاح الغرفة قبل حصولك على عقد الزواج و بطاقة التعريف ، ثم قارن بين المعطيات .. دقق جيدا ! المسألة فيها بوليس ، و سين و جيم ..

    لاشك أن عدنان لاحظ الرهبة على وجهي . لا أجد تفسيرا آخر لضحكته المجلجلة وسط سكون الصباح .( كانت له ضحكة غريبة ، يمازجها أنين كالألم ) قطعها صوت غليظ مبحوح صادر من مكتب العجوز ، شبيهة ببعبعة كبش :

   – إ..ي  ! ما هذا السوق .. ؟

ابتلع عدنان قهقهته ، وعاد الهدوء إلى الممر ثانية ، ثم ربت على كاهلي وقال مطمئنا :  

   – على كل حال ، هذه الحالات ينذر حصولها في النهار ، الرذائل تأتي مع الليل . أردت فقط أن أنبهك إلى خطورة الموقف ، أنت المسؤول الأول أمام القانون . قد يأتي إليك من يقدم نفسه قريبا أو صديقا لصاحب الفندق ، أو صاحب سلطة و منصب ، أو من يدل ظاهره على التقوى و الورع .. لا تنخدع بالمظاهر و الألقاب . سوف ترى ، سوف تتعلم الكثير عن الناس ..

   عدنان الذي عرفت فيه المرح والهزل يتبدى اليوم في صورة أخرى ، تجلت في نظرته الحادة ، ونبرته الجادة .. بدا لي أكبر من سنه ، رجلا كامل الرجولة . قلت بإعجاب و امتنان :

   – أشكر لك حرصك و إخلاصك !

صافحني بمرح وقال :

   – حظا موفقا  ! سوف أعود في المساء .

عدت إلى المكتب و جلست مكان عدنان ، كنت منبهرا بسحر المكتب ، هذه أول مرة أجلس فيها خلف مكتب فخم ، هممت بفتح الدرج ، فظهر عدنان قادما نحوي بحركة مستعجلة :

  – نسيت أمرا مهما !

  – ماذا هناك ؟

  – عليك أن تعد النقود في الدرج قبل أن أنصرف ، سوف تجد خمس مائة درهم . تستلمها في بداية الدوام ، وتسلمها في نهايته . ومداخيل اليوم تسلمها إلى مسيو العربي مع كشف الحساب .. أتم ملاحظته بسرعة توازي سرعة عده للمبلغ ، ثم انصرف. في هذه الأثناء ، ظهر أمامي شيخ مربوع القامة ، متين البنية ، مكور الكتفين ، يعتمر طاقية من الكشمير الأزرق الداكن ، بواجهتها المدعوكة مثل منقار البط ، تظلل ناصيته . يحمل وجها مربعا قمحي اللون تطل منه عينان رماديتان صغيرتان تحت حاجبين عاريين ، يتوسطه أنف طفولي استقر تحته شارب فضي عريض، معقوف إلى الأعلى .. بادرني بالتحية :

   – بونجور !!

أدركت وأنا أرد التحية أني مطالب بالحديث بلغته ، لكنه لم يمهلني ، تابع كلامه بمرح ؛ تحدث عن الطقس الجميل وأنه قريب من جو ” كورسيكا ” مسقط رأسه وجزيرته المعشوقته .. ثم أخبرني أنه ذاهب إلى سجن ” سات فيلاج ” ، فاليوم هو عيده الذي انتظره طويلا .. سوف يطلق سراح ابنه في هذا اليوم ، وعليه أن يكون في استقباله هناك . قال ” أوروفوار” و مضى سعيدا مثل طفل صغير ..

    مر الوقت رتيبا دون حدث يذكر ؛ مجرد وقائع عادية : أسرة من أب وطفلين يقفون مع الأمتعة ، تتقدمهم نحوي امرأة جسورتطل من عينيها البراقتين نيران الشر.. لتفاوضني عن ثمن الغرفة ، عجوز سويدي أدى إلي مقابل إقامته ليومين ، ونفحني إكرامية بخمسين درهما ، شاب وشابة إيرلانديان حضرا توا من الشاطئ ، أعطيتهما المفتاح فصعدا الدرجات متعانقين ..

   كان الملل قد بلغ مني حد الضجر حينما جاءني رجل بهيئة موظف منهك ، يناهز عمره الخمسين سنة ، له رأس ضخم أشيب ، تتوسط وجهه الممتقع بحمرة ضاربة إلى سواد ، نظارة بإطار مربع أسود ، تطل منها عينان جاحظتان . وجسده المترهل يقبع خلف بدلة رصاصية اللون ، يتأرجح بيده اليمنى كيس بلاستيكي أسود ، كتب على جانبه إشهارأجنبي بخط فضي. ألقى التحية في وقار يناسب عمره و هيئته . وسأل عن غرفة لليلة واحدة . سلمته المفتاح بعدما مد لي بطاقته وقلت : ” الغرفة رقم 7 ” . استلمه بيمناه  ، وانفرجت شفتاه الزرقاوان عن ابتسامة مقتضبة خاطفة كالوميض ، كشفت تفحم ما تبقى من قواطعه . ثم صعد إلى الغرفة والكيس يتأرجح في يده .. لم يطل غياب الرجل أكثر من نصف ساعة . بعدما انتهيت من تدوين البيانات و استلمني الملل ثانية ، مثل أمامي من جديد ، وقال في أدب جم :

   – من فضلك سيدي ، هلا أعطيتني بطاقتي ! لعلك لاحظت أني لا أحمل أمتعتي ، تركتها بمستودع المحطة ريثما أجد غرفة مناسبة .. ختم حديثه بالابتسامة نفسها ، وعيناه تتطلعان إلي في رجاء .. سلمته البطاقة دون تردد و قلت متفهما :

   – على الرحب سيدي .. تفضل !!   

رافقت عيناي الكهل المنصرف يجر جسده المترهل في إجهاد ، وعدت بعدما ابتلعه الشارع ، أحملق في الفراغ شارد اللب .. لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا على هذه الحال ، إلى أن جاءني صوت العجوز من المكتب :

   – إي .. أنت !  تعال إلي  !!

قفزت مسرعا كما يجدر بموظف يمضي يومه الأول ، و مثلت أمامه مستجيبا ، فقال وعيناه تفحصان أوراق المكتب :

   – ذكرني ! ما كان اسمك ؟

   – جلال .. سيدي !

   – قبل قليل ، جاءك زبون وطلب بطاقته . أعدتها إليه ، صحيح ؟

   – صحيح سيدي !

   – هل أدى ثمن الغرفة ؟

أدركت أني أمام أول خطإ أقترفه في هذا اليوم الذي أوشك على نهايته ، قلت بنبرة واثقة :

   – سوف يعود سيدي ! طلب بطاقته من أجل ..

قاطعني العجوز متهكما :

   – من أجل ماذا ؟ هه ..! من أجل ماذا ؟ لو عاد هذا الرجل ، لعادت إذن كل الأسماك ، وكل الطيور .. !

صرخ فجأة ، كأن النار اندلعت حوله :

   – هنية .. ! هنية .. !!

ظهرت عند الباب امرأة قميئة معصوبة الرأس ، ضاعت تفاصيل جسدها داخل وزرة بيضاء ، تعلو وجهها المفتقر إلى الحياة ، صفرة تفضح مرضها و تعاستها ..

   – خذي مفتاح الغرفة رقم سبعة ، و ألقي نظرة !

صعدت هنية الدرجات نحو الغرفة بخطوات متسارعة عنيفة .. أدركتها عند المدخل تهمهم بأصوات مبهمة ، بادية الاستياء . زكمتني رائحة مقرفة ، وامتد كفي بحركة آلية إلى الأنف :

   – أف .. أف .. !!

ترددت لحظة ، ثم تقدمت مرغما ، تقودني الرائحة نحو الحمام ، كانت بقع الماء متناثرة على الأرضية ، والكيس الأسود مرميا هناك ، و المناشف البيضاء أخذت لون الحناء .. نادتني هنية من الزاوية حيث دورة المياه :

   – تعال ! انظر ! .. البغل ، أخذ حماما ساخنا بعدما تغوط ، و مضى .. !

                                                                                       

 

                                                                               طنجة 30 ديسمبر 2014

مقالات من نفس القسم

amr ezz aldeen
تراب الحكايات
موقع الكتابة

فيزوف

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور