“أيها الولد المعذَّب”، يا الساهر على حكاياتك حتى تنضج.. أنت، بخساراتك الكاملة، بروحك المحلقة في براح الكون الواسع، وجذوتك المشتعلة في صدرك.. أنت بكل ذلك واحد من الكتاب المهرة، القلائل الذين يصبرون على حكاياتهم حتى تنضج.. تصبر أنت، بينما تقبض على جمرة الإبداع المتقدة في باطن كفك؛ تحرقه، تتوغل في لحمه وأنت تعيش الحكاية ولا تكاد تحس بأثرها في جسدك.. تعيش الحكاية جيدًا.. ترى النافذة تُفتَح على طريق سوداء، تتلوى أمام ذلك الضوء.. تتلوى وتمتد إلى نهاية الأفق المطبق في الظلمة.. تمتد كذكرى، كحياة، كنداء يأتي من هوة سحيقة.. الجميل أنك صدقت النداء. عرفتَ موقعه ثم حددت طريقك بعد ذلك، لتمضي، لا تلوي على شيء…
هكذا يمضي الروائي “محمد صالح البحر” في طريقه بتأنٍ وتؤدة، وبإصرار كبير، وطموح لا يُحد.. لا يزاحم ولا يداهن ولا يبدل لباسه الوقور بلباس المهرجين والبهلوانات والمتسلقين وراكبي الموجة.. هو مؤمن تماما بمقولة الرائع كارلوس فوينتس: ” يجب أن يأتي النجاح بعد وقت، وعلى مهلٍ كي يدوم للأبد”…
“لكنني واثق من أنني لم أكن لأزاحم أحدًا على شيء وأنني لم أكن لأفعل شيئا، يختلف عما أنا فيه الآن، أن أنظر للحدث بهدوء شديد لأعرف موقعي منه، ثم أحدد طريقي بعد ذلك”(*)
ما دمت قد بدأت في قراءة رواية ” نصف مسافة” فلن تستطيع- بأي حال- أن تتوقف، وهذا المحتال يسحبك إلى عالمه لتحبس أنفاسك وأنت ترى وتشم وتتألم وتختنق أنفاسك من غبار الطريق الطويل، وأنت تعاني لوعة الحب وألم الفراق وفورة الرغبة، وصدمة الخوف.. لن تستطيع أن تتوقف وأن تحاول أن تفرد ساقيك أسفل المقعد الذي أمامك ثم لا تستطيع.. تبدأ الرواية برحلة الجندي ” محمد” من مدينته بمحافظة قنا ومحاولته المستميتة للوصول إلى مقر كتيبته بمحافظة الوادي الجديد في الموعد المحدد. في ظل الفوضى الأمنية واشتعال الثورة في ميدان التحرير ومحافظات مصر المختلفة.. إن البحر كاتبٌ محنك بحق، استطاع- ببراعة- أن “يختار المواقع التي تؤهله للرؤية الشمولية العميقة، فيدرك الماضي ساعة إدراكه للحاضر، ويدرك الحاضر ساعة تأمله في الماضي، يدرك المكان الغائب لحظة معاينته للمكان الحاضر ثم يقوم بإلغاء الزمان والمكان ليصعد بالسرد إلى آفاق التجريد الذي يتيح له مشاهدة المادة الأولية للوجود”. يرى، من مكانه البالغ الصغر، طرق العالم إذ تتشعب، ودروب الكون إذ تتسع أمامه، تمتد وتتشعب ولا مناص من الاختيار..
” ما أعرفه الآن يقينًا أنني أتكور داخلي، أن الوقت يدخل في الليل، وأن السماء جوفاء بغير قمر ولا نجوم، حتى الطائر ذو الجناحين الكبيرين فوق موقف الأتوبيسات وقد أفلحت محاولات تحليقه، جناحاه يستطيلان وجسده يرتفع عن الأرض حتى صار طائرا في الهواء، وهناك في السماء البعيدة نظر تحته، ورفَّ بجناحيه كثيرا ثم أقلع عن المكان”(*)
بدأ البحر باستئناس أسلوبه واختيار مفرداته وتراكيبه وترويض لغته على مدار سنوات حتى أنني أجرؤ أن أقول مؤمَّنا مع “هايدجر” على كلماته التي قالها يوما ” اللغة أخطر النعم” والشرط الجماليّ كما سمَّاه ” هربرت ماركوز” بدا لي في مواظبة اللغة، في مجابهة هذه السماء المشرعة على اللانهائي وعلى ما لا يُحَد أو ينحسر ففي اللغة يكمن السر، تكمن الدهشة” والروائي يجب أن يكون هكذا؛ محتالاً، يسرق الكُحل من العين ويتركك سعيدًا بخواء جيوبك، وامتلاء رأسك بحكايته.. “أرسلتُ زفرة حارّة، ورأيتها وهي تخترق صدري وتدفعُ بحرِّها إلى الخارج فوق البيوت المظلمة، تكاد تحرق الأشياء والعالم، فيدخلني خوف عميق إذ أرى نفسي تطلق سحرها الشرير من مخبئه في وجه العالم، فأهِمّ بإغلاق نافذتي لأحبسها، لكن نارًا أخرى تفتح نافذتها المقابلة في وجهي..” (*) أيها الولد المعذب بروحك المتسائلة القلقة إلى متى ستظل، منتظرًا ذلك النداء، وباحثًا عن ذلك الصوت في عتمة وجودنا! “إن العالم الآن مظلم لكن ثمة صوت يدوي في الفضاء بنداء غائر، لكنه موجود بكل تأكيد، حتى ولو لم يسمعه أحد غيري” (*)
………………………..
(*) مقاطع من رواية “نصف مسافة”، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة عام 2014م
– محمد صالح البحر من كتّاب جيل التسعينيات، من مواليد قنا، كاتب سيناريو وحوار إلى جانب كتابة القصّة القصيرة والرواية، من مطبوعاته “أزمنة الآخرين” مجموعة قصصية، “ثلاث خطوات باتّجاه السماء” مجموعة قصصية، “موت وردة” رواية، “حقيبة الرسول” رواية، كما حصد عدّة جوائز عربية ومحلية من أهمها “الشارقة للإبداع العربى” عن رواية “موت وردة” و”جائزة فلسطين الدولية” عن رواية “حقيبة الرسول“.