في ديوانه الجديد ، الصادر عن سلسلة ( الكتاب الأول ) بالمجلس الأعلى للثقافة ، و المعنون بـ ( غرفة في سحابة ) للشاعر إبراهيم محمد إبراهيم ، يأخذنا إلى تجربته المتفردة الطازجة بشكل تدريجي ، خفي و بأسلوب عميق و لغة مكتنزة الدلالة طيعة .
على المستوى الشخصي ، عرفتُ إبراهيم محمد إبراهيم ، كشاعرٍ حالمٍ ، يمتلأ شعره بالرومانسية الظاهرة ، و يقترب من الإيقاع الجلي حد الغناء ، كنا زملاء في كلية التجارة ، جامعة عين شمس ، آوائل التسعينيات ، و كان حينها شاباً ممتلئاً بالحيوية و الخجل ، يُلقي شعره كحبات الكرم على من يقابله ، يتغنى بالحبيبة / الأمل ، في كل قصائده ، و كانت أشعاره حينها واضحة وضوح الطريق ، حزينة حزن الموت ، طيبة طيبة القلوب الغضة ، و مرت الأيام ، و لا أقول مر العمر لأن تكرار الأيام لا يعني العمر ، مرت الأيام و أعطتنا من التجارب و الخبرات ، ما انطبع على ذواتنا و بالتالي على كتاباتنا .
مرت سنوات ، و فاجأني إبراهيم بهذا الديوان ، و كان جُلّ ما أردت أن أعرفه ، كيف صار شعره الحالم ؟
(أريد أن تحطَ حنانك على سريري
يا أبي
و أن أسألك
فيم كبرت هكذا بلا اكتراث )(2)
“غرفةٌ في سحابة” هو الديوان الأول لإبراهيم ، و لكنه ليس أول الشعر ، و حسناً فعل إذ تمهل على تجربته الشعرية ، فأنتجت هذا الديوان العميق و الذي يمكننا رصد عدة خصائص مميزة له :
أولاً : السُخرية :
تتغلغلُ السُخرية داخل قصائد الديوان ، و نجدها مرة متسائلة ، و مرة مريرة ، و في
الأغلب هي للتهكم من الواقع ، حيث يسخرُ الشاعر من كل ما هو سلطوي :
( كل شيء هالكٌ كالحكومات )(3)
أو في قوله :
( و الجرائد عادتْ مسامير منتصبة
كالحكومة )(4)
و أحياناً تكون السخرية من الشاعر نفسه :
(نسيتُ أن أموتَ فجأة
لا تلمني
مشاعلي كثيرة )(5)
أو يتغنى بسخرية شجية ، فيقول :
( كان يجلس في المقهى
ذلك الحزن
سأخرج خلسة
ربما للمرة الأولى
وحيداً
لكنه ذلك الوغد يحفظ رقم هاتفي )(6)
ثانياً : الذاتي / العام :
في هذا الديوان لا يمكن الفصل بين الهم الذاتي/ الشخصي ، و الهم العام/ الوطني ،
و لا عجب أن الشاعر ذكر الوطن في أول قصائد الديوان ، و وصفه بالوطن الزائر
و من شأن الوطن أن يكون الموطن و الآمان المستديم ، و لكن كيف ؟!
فالشاعر و جيله تقريباً يشعرون أن الوطن تركهم في الطرقات من دون سند ، و لهذا يقف الوطن عند حدود الزائر في وجدان الشاعر ، فالجيل الذي عاش التحوّلات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية المختلفة ، التي اجتاحت الوطن العربي حتى زلزلته ، و انطبع هذا الزلزال على كتابات الجيل فأصابها بالتساؤل الدائم حول كل شيء ، حتى الرواسخ المقدسة في الوجدان ، و لهذا يمزج الشاعر بين همه الشخصي و الهم الوطني ، و يجعل كلاً منهما نتيجة للآخر ، فهو ابن الطبقة المتوسطة التي سعتْ إلى تعليم أبنائها كطوق نجاة سيصعدون به بعيداً عن الطوفان ، فإذا بطوفان التحوّلات يقسم الطبقة المتوسطة و يغرقها ، و لا تبقى سوى نداءات الاستغاثة المترددة لإثبات فعل الوجود .
يقول الشاعر :
( القاهرة هي آخر ما لدي بعد صراع )(7)
و في موضع آخر ، يصرخ :
) هزيمتك الأخيرة مُلوّنة بالسحاب
كأنك منخلع يلتحفُ بالمجلس العسكري و أمسيات المقاهي )(8)
و يجسد تأثير المأزق السياسي ، فيقول :
) القاهرة
كهيئة البرد ، و مؤخرة المتوسط
تنامين تحت سرير الملك الضليل ، و تنبعثين من بالوعةٍ
في مؤتمر المانحين )(9)
ثالثاً : الرمز و الدلالة :
الديوان يمتليء بالرموز التي تؤدي إلى دلالات معينة واضحة ، و تتكرر الرموز ، و تتكرر معها الدلالات ، فالشاعر مخلص لعالمه ، يصنعُ رموزه من شخصياتٍ حيّة في المجتمع ، شخصياتٍ يمكن أن نعدها مُعبّرة عن قطاع من المجتمع يقع تحت وطأةِ الأمل و الرجاء .
فالأم تلك الحاضرة الغائبة المُعطية المُضحية ، دلالة على الشخصية المكافحة ، و يتجسّدُ من خلال حضورها في القصائد أزمة الشاعر ، و بالتالي الشعر :
(كأن كل حسرة وتد
كأن كل دمعة إله )(10)
و يتجلى رمز الكفاح المتواصل مع الحياة ، في قوله :
( لم يعد زخمٌ ما يعجُ بالحجرة
كأنه مهرجان من الانكسار )(11)
الأب رمزٌ كبير في هذا الديوان ، ذلك الذي يورثُ ولده هيئته و ضعفه ، مما يجعل الشاعر يعطف عليه مرة ، و يحمل عليه مرة ، فالأب دلالة على قسوة الحياة ، و القسوة هنا ليست بمعنى الفقد و الفقر فقط ، بل أيضاً تتجلى القسوة في الآمال المتلألئة الغائبة ، مما أضفى رمزاً كبيراً آخر ، و هو الرجاء الدائم ، رجاء لم يقترب من تحقيق الأمل فصار سعادة ، و لا اقترب من ضياع الأمل فصار يأساً ، رجاء مُعلّقٌ دائم ، يتأرجح الشاعر معه :
( و حبل الغسيل الذي مالَ
ليته يظلُ هكذا
طائراً
ينفضُ وحدته بين شُرفتي
و شُرفة الجيران
ليتها لا تصدأُ
في حوائط الغرفة
سيدةٌ
غائبة )(12)
و يمتدُ الرجاء :
( ليته اللهُ
يُشعلها رُقيتي على سلالم
البيت )(13)
رابعاً : الشاعر/ الراوي :
آثر الشاعر أن يجعل من نفسه الراوي الوحيد في الديوان ، أن يكون هو المتكلم ، هو المسيطرُ على روح القصائد ، و رغم أن هذا أعطى للديوان خصوصية على مستوى التجربة ، و على مستوى طزاجة الإحساس ، و القدرة المتفردة لدى الشاعر على تمثل الحالة الشعورية ، التي ما تلبث أن تتسرب إلى وجدان القاريء ، حتى يجد نفسه ، داخل خندق الشاعر ، إلا أنني كنتُ أُفضل أن يخرج الشاعر من أسر ذاته ، كي يرى العالم من حوله ، و هذا ما أنتظره في الدواوين القادمة .
( لغتي حصى تحت جمر
تؤكد أن ورداً سينبتُ في عتمة البيت )(14)
تساءلتُ في البداية ، كيف صار شعر إبراهيم محمد إبراهيم ، و بعد هذه القراءة أرى أنه صار أعمق عمق السؤال ، غاضباً غضب العوز المكتوم ، ليِّناً لين الرضا و الرجاء ، ساخراً سخرية الأيام .
________________________________
*(غرفة في سحابة ) ، شعر : إبراهيم محمد إبراهيم ، الكتاب الأول ، المجلس الأعلى للثقافة ،
ط1 ، 2014 .
1- قصيدة ( جهاد ) ص7
2- قصيدة ( مراهقة ) ص9
3- قصيدة ( طوق الحمامة ) ص14
4- قصيدة ( الغائب ) ص31
5- قصيدة ( الرومانسي ) ص43
6- قصيدة ( أيام الأسبوع ) ص49
7- قصيدة ( جهاد ) ص8
8- قصيدة ( المرأة العجوز ) ص59
9- قصيدة ( الغزاة ) ص 57
10- قصيدة ( جهاد ) ص8
11- قصيدة ( غرفة في سحابة ) ص41
12- قصيدة ( شاي الجيران ) ص70
13- قصيدة ( هالات ) ص72
14- قصيدة ( لهاث الروح ) ص11