تجيء الكتابة في هذه الرواية، من خلال مدينة متخيلة تبدعها مخيلة الكاتب وهي “مدينة الصعاليك” التي تمتزج فيها عناصر شتى تبغي مفارقة الواقع والتحليق في تهويمات الخيال. لكنها على رغم كل شيء تُشتم فيها رائحة مدينة الكاتب – المدينة الوطن، مدينة الماضي والآتي والمتخيل، التي لم تفارقه حتى في قصصه القصيرة والتي نجح في تصويرها وفقاً لرؤيته التي تقوم على الاختزال لا التفصيل والكناية الشعرية السحرية لا السرد الوقائعي التقليدي، والفانتازيا الشديدة المفارقة لا الواقعية التقليدية العادية.
ويعاني البطل – الكاتب من الاغتراب الشديد والعميق في كل مستوياته ومعانيه، من تلك الخارطة الجغرافية الذاتية التي تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي عاش فيها مرحلتي الطفولة والصبا، وعرف معنى الخصوبة التي لم يجدها في أي مكان آخر. هذا على رغم تردده على الكثير من المدن والعواصم. وتلك تجربة تحاول ابتعاث الماضي الدفين في البطل نفسه – الكاتب من مرقده في محاولة للاجابة عن السؤال: “أين ذهب العصر المنصرم من حياته الأولى في لحظة واحدة هكذا فجأة؟“.
وتتنوع حياة البطل – الكاتب في مسارات وزيارات عدة الى مدينة الصعاليك المتخيلة وما يتفرع عنها وما يؤدي اليها، من أماكن وذكريات ضاربة في اللاوعي الغيبي في البطل نفسه – الكاتب. فهي رواية تتداخل فيها التجربة بين السيرة الذاتية والقصصية وتتناهى الحدود الفاصلة بينها، حتى لا نستطيع التفريق بين ما هو روائي وما هو ذاتي. وذلك من أبرز سمات القص المصري عند كتاب التسعينات سواء في القصة القصيرة أو في الرواية.
ويسيطر جو من الغموض السحري المتعمد لطبيعة الموضوع الذي يرغب الكاتب في ايصاله الى المتلقي عبر آليات السرد المتقطع وهي تقوم على المشهد الحلمي دوماً، والكابوسي أحياناً، والمتخيل غالباً، الى جوار القص الواقعي نادراً، والمشهد اليومي عادة، من خلال لغة سردية سينمائية محايدة وغير متورطة تماماً في صوغ الخطاب السردي الى عمق النسيج النصي. ويقوم القص على تزاحم وتراتب وتوارد للمشاهد المتلاحقة، من دون نسق واحد محدد أو مؤطر. يخضع القص للتوارد العفوي والمتداعي في تقدم الى الأمام أو تراجع الى الخلف. وتسيطر على النص في بعض المواقف لغة صوفية اشراقية شفيفة عرفانية تجلو غياهب النفس وتضيء عتمة الروح. ويقترب النص في بعض المقاطع القليلة من محاكاة القص العربي القديم كما في بداية الفصل السادس عشر.
ويلف حياة البطل – الكاتب شعور قاتل من عدم التحقق ولوعة الفقد والأسى ومرارة اجترار الذكريات حين ذهب الى مدينته الأم. وراح يرصد التحولات الجد خطيرة التي طرأت عليها.
ها هو الزمن يتسرب في نقطة واحدة تتداخل وتتعدد فيها الأزمان. فمنذ التاريخ الفرعوني الموغل في جوف الزمن مروراً بالتاريخ العربي الوسيط والنقاط المضيئة فيه، وصولاً الى العصر الحديث بآلامه العظام حين شرع في حفر قناة السويس وما نتج عن ذلك من مصائب راح ضحيتها الآلاف من الشعب المصري الصابر دائماً عبر تاريخه الأزلي الطويل.
وتتعدد الشخصيات التي يلقاها البطل – الكاتب أو يذكرها في رحلته وفي طريقه. فيقابل الريس بيرة والعم حكم واليوزباشي عبدالرحيم الكبير الذي يبدو أنه جد أعلى للبطل – الكاتب ورجال الخديو المسؤولين عن حفر القناة والكثير من الشخصيات التاريخية الحقيقية والاسطورية مثل محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا والخديو اسماعيل والخديو سعيد والفرنسي فرديناند ديليسبس وامبراطورة فرنسا أوجيني، والمعبود المصري القديم أوزوريس والحكيم المصري القديم بتاح حتب وبعض الملوك المصريين القدماء أمثال وجد كارع اسيسي وأوناس وتتي والرحالة حرحوف من الأسرة السادسة الفرعونية. وكذلك الكثير من الشخصيات المهمشة مثل تعلب ومريم ابنة القاضي ونصر كوارع وسيد مزيكا وعلي الألفي بن فاطمة. وتغص الرواية بالشخصيات النسائية ووجودها حي وفاعل في النص وفي منتهى الحيوية ويشيع جواً من الدفء وإشباع الروح وإدخال طاقة الحلم في السياق السردي عند البطل – الكاتب لتصل كل هذه المفردات الى المتلقي المشارك في إبداع النص مثله مثل مبدعه سواء بسواء.
وتمتلئ الرواية كذلك بالأسماء الواقعية لبعض الأماكن مثل بورسعيد وبورتوفيق والجمالية والمنزلة والفرما والدفرسوار والفردان وتنيس وبحر البقر.
إنها رواية تثير الأسئلة القلقة بقدر كبير جداً من الدهشة والحلم والألم ولا تجيب عنها في محاولة منها لفض الاشتباك القائم بين العام والخاص على السواء، ووفقاً لرؤية تجديدية لا تتعالى على المتلقي أو الواقع وتستنزف المستقبل المأمول.