قال بعد أن شق زحام الفناء المتسع بذراعه اليسرى المبتورة، وجسده الطويل النحيل نحو أعلى قمة جهة المنصة الزان المخصصة للعمداء: “اليوم فقط وبعد مرور سنوات طوال عشنا فيها معاً، وحلمنا جميعاً بغد أفضل لن يأتى، فدوري تجاهكم وحقكم علىّ يدعوانني لكي أقول لكم وبملء الفم إن الثعلب قد مات! ذهب بلا رجعة”.
دوى الصراخ وانتفخت العروق وباتت جلبة الطلاب من كافة الأقسام أشبه بذعر العصاة في يوم الحشر. الطالبات يلطمن الخدود ويشققن الصدور، وطلاب الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والهندسة والحقوق، انخرطوا في نوبة صفير ونحيب. بطرقة واحدة بيده على المنصة أخرس الأفواه، ثم أخذ يحدق في الحشود المتراصة أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله وفوق الأسطح القريبة من القاعة الكبيرة. تراءى له المشهد أشبه بحشود الجماهير وفرارها بالملايين في الشوارع “يوم التنحي”!
قال: “من فيكم يملك حق الاعتراض أو نفى ما قلته وجزمت به، سبعة مبادئ غرسناها معاً بشفافية حالمة، فرأيناها زرعة أحلام، فسقيناها بدموع غزيرة، فاستطالت جذوع الوهم سراباً تلاشى مع الغروب، فصارت الخصوبة رماداً يغير الوجوه!!”
خرجت سبعة أياد متشابكة من الصفوف الأولى. قال قائل وهو الأول يميناً في الوقوف: “بهاء عبد الحليم، قسم الفلسفة الفرقة الرابعة. أراها سبعة وجوه للحقيقة”.
قال الثاني: “أراها سبعة كوابيس. سبع سنابل خضر. سبع سنوات عجاف. ثلاثة أعوام قبل رحيله مرت كأنها دهر، أراها ثمانية عشر من المراهقات…”.
وقال الأخير “:محمود طلخان، الفرقة الرابعة، قسم اجتماع. أضم صوتي للزميل بهاء مع التحفظ النسبي، سبعة وجوه للحقيقة عند امرأة وحيدة فاتنة وحالمة!”
إذاً ليبحث كل منا عن سبعة أشياء تخصه ويعمل عليها، أقفل كراسته وطفرت دموعه رغماً عنه وتوارى، فأدبر يسعى وكلنا في ذهول، وخرجنا في صفوف منتظمة تسد شوارع المدينة.
فتحنا الحقائب للمرة الأخيرة، وغاصت الكراسات والملازم في جب مظلم، فتوارت الحروف المسطورة، وعند باب الجامعة الأم، ودعنا الزملاء الأعزاء، وعزمنا سبعة على الخروج خلسة من فرجة صغيرة بالسور الحديدي العالي المواجه لمبنى كلية التجارة “إنجليزي”، والذي تهدم لتوه على أثر اندفاع الحشود الهائجة والقادمة من أقصى المدينة لتشارك في اللقاء الأخير.
خرجنا منهكين من الكدر، فاصطدمنا بتيارات هواء الخريف الذي أتى مبكراً على غير العادة. السيارات تنطلق مسرعة دون هدف. كلاب “اللولو والكانيش” تنتصب محدقة خلف نوافذ الشيروكى والـ BMW الموصدة. عين تطل على سماء سوداء ملبدة بالغيوم، وقلب يرتج من الألم، وعين تدمع من قلة النوم، وعقل يريد لسان صاحبه أن ينطق بالدعاء من أجل الخلاص. أرواح ترجو المطر أن ينهمر كشلالات ليغسل التراب العالق بالأفئدة والوجوه….
قال محمود طلخان بوهن: “ سنذهب بعربة جدي لنلحق بالجنازة. ركبنا الفولكس واجن، اثنان بجانب السائق النوبي، وخمسة بالصندوق الخلفي المغطى بمشمع أزرق، وجلس وسطنا محمود طلخان أبو الورد. جاءنا صوتها نقياً حزيناً ليؤكد حجم الخسارات المتوالية دون قصد؟! وسلط عم “عزيز” أنوار الفوانيس الأمامية المبهرة على الطريق الطويل لسكة المعاهدات ذات الأشجار الملتوية المائلة أفرع جذوعها قرب الإسفلت الضيق..
“راح اللي راح معدش فاضل كتير، إيه العمل دلوقتى يا صديقي لما بقينا عند افتراق الطريق، نبض قدامنا على شمس أحلامنا، نلقاها بتشق السحاب الغميق”. لحم السماء يتدلى من الضباب، فتتوق الأفندة إلى قطرات مطر حتى ولو مجرد نثار. طالت الرحلة لساعات، ليتوقف عم عزيز مؤخراً جهة الغرب عند قسم شرطة الميناء، وبالقرب من المبنى الخلفي بقسم البحث الجنائي أعلى المشرحة، اقتحمنا الأبواب المغلقة وظللنا نحن السبعة نحدق في وجهه البهي، فأحسسنا بكافة الدوافع التي أدت إلى هذه الفاجعة التي كانت بمثابة النهاية الحتمية لكافة أفكاره وخيالاته، بل أحلامه وشطحاته الخارجة عن المألوف. تراجعنا صامتين، وبات كل منا يفكر في الدوافع الحقيقية للغدر به. قبل الوصول إلى المكتب الصغير المخصص لاستخراج تصريح الدفن، قال بهاء عبد الحليم: “فليفكر كل منا ومن خلال علاقته الخاصة به، وسماعه أحاديثه أو حواراته في أن يحسم أو يستكشف سبباً مجدياً يؤدى إلى هذه النهاية الغامضة المؤلمة”. قال قائل:” عرفت عنه الكثير والكثير فاحترت في فهمي؟! هو ابن طبقة فقيرة”. وقال آخر “: كان نتاجاً شرعياً للفكر البرجوازي المتسلق”.
استقبلنا المقدم عز الدين أبو سمرة بخبرة الكاهن الفاهم ما يدور في العقول، وما يقبض عليه الوعي والبصيرة بحدة حاذقة، فتحاول الحواس اليقظة أن ترميه بعيداً عن أعين الرائي الواثق من التواطؤ الخفي والمعلن، بين الأسباب الحقيقية التي أدت إلى موته الفعلي الوارد في دفتر الأحوال بقسم الاستقبال التابع لمصحة الحوادث والطوارئ ( قسم القنطرة شرق)، والأسباب الخفية، وهى الفعلية التي أدت إلى التربص به وقتله على أيدي خمسة من المعارضين لسياساته وتوجهاته.
قال المقدم عز الدين أبو سمرة: “عليكم التوجه إلى الباب الخلفي للمشرحة للتأكد من جثة المتوفى”.
وقال غريب تصادف وجوده في المكان: “استعان بكلامه المعسول في الوصول إلى غاياته المنشودة عبر أكتاف الآخرين. الحقيقية أنه كان حالماً عبقرياً، كان عاشقاً للفن، بل كان مولعاً بكتابة القصص الفاجرة، وآخر لقاءاتي به، كان على باب أحد فنادق النجوم الخمسة، فقد كان مدعواً بمفرده للقاء أهم شخصيات البلد! كان مولعا بالمراهقات، وتخصص في مطاردتهن بجرأة، وهذا السلوك تحديداً كفيل بتربص الأهالي به، خاصة أن هؤلاء الفتيات كن من أسر ارستقراطية عريقة. لا أرى فيه أي شيء من هذا القبيل، ولهذا فنهايته الطبيعية أن يتفق الجميع على قتله، إنه مجرم عتيد الإجرام، ظلم غالبية البشر بسلوكه المتناقض بين ما يردده كشعارات رنانة وما يفعله فى الخفاء من أعمال مشينة”.
صرخ محمود طلخان في الوجوه قائلاً: “ كفاكم هراء، فهذا ظلم للرجل العادل وتاريخه الحافل بالإنجازات والأفكار السامية.. كنت ومازلت أراه فتى بهياً عاشقاً كبيراً للجمال، حالماً بكل ما هو جميل. كان يملك قلب طفل جميل. رحمه الله. عفواً يا زملائي الأعزاء، فطفلنا الكبير لا يستحق منا كل هذا الجحود”. خرج بهاء عبد الحليم محاولاً وضع حد لهذه الترهات.. “علينا أن نتسلّم الجثة أولاً لنقوم بدفن الرجل، ولكن قبل أن نذهب به إلى مثواه الأخير، يجب أن تكون الجنازة بالشكل اللائق بعطاءاته وتاريخه الحافل، ويجب أن يحاول كل منا أخذ عبرة مما بثه هذا الرجل فى طلاب الجامعة كلهم، وما أضافه لأفكارنا نحن السبعة تحديداً، وبعيداً عن العواطف أو التقليل من شأنه…”
طال الصمت والوجوم والكل يساءل نفسه دائراً في ملكوته وأمكنته، ودون التفوه بكلمة واحدة… إنه المصير والقدر المحتوم. جرى محمود طلخان صوب وكيل النيابة ليوقع على تقرير تسلّم الجثة. هرع الأهالي من كل الشوارع والحارات والأزقة، واحتشدوا خارج أسوار المستشفى قرب الصحراء الخالية لمدينة “القنطرة شرق” وانطلق النعش كمركبة فضائية تزدان بالورود. علم الدولة الزاهي يرفرف خفاقاً فوق الصواري، وعازفو القرب والمزامير محتشدون في مقدمة الجنازة الأم خلف التابوت الذي طاف كافة جنبات العاصمة، وبات المشهد للرائى الحزين المكلوم معارضاً هذه النهاية، فكل الأهالي في البلدة الساحلية ليس لديهم أدنى شك فى أن المرحوم قد وقع ضحية لجريمة قتل بشعة دبرت بحنكة ومهارة، يصعب الوصول إلى دوافعها أو كيفية تنفيذها على هذا النحو…، يخترق التابوت الحشود وخلفه المشيعون، وعم عزيز السائق يصرخ بصوت ترددت أصداؤه في السموات : “يارب يا عادل، خذ عريس السماء إلى جوارك”.
ويزداد النحيب مع التكرار، “تعلب مات يا بلد، التعلب مات يا ناكري الجميل!!” وتقدم الرفاق السبعة، دفعة ما بع الملكية، حاملين باقات الزهور، سائرين بمقدمة الجنازة، وسار خلف كل منهم طفل صغير يرتدى جلباباً أبيض وطاقية من الحرير. جلجلت الأناشيد وصار البكاء نحيباً. وعند المقابر التي غلف جنباتها الضباب الساقط عند الفجر، ووقت أن أذن المؤذن الضرير، كان كل من الرفاق السبعة يرمى بالزهور عالياً فتطير جهة السماء وتهبط على سقوف المقابر الرخامية وفوق سعفات النخيل، ومع المارشات الجنائزية التي لم تصمت منذ عصر الأمس، بدأ الهذيان يجتاح الجميع وبخاصة من يتقدمون الجنازة، وانفتحت الأفواه ونطقت الألسن بعبارات بليغة صارت أناشيد، فارتجال بأسرار وحقائق بعيدة عن حكمة العقول الزائفة، وتردد في الملأ الأعلى كل المخفي والمستور من عظائم الأمور والأسرار المخبوءة. خرجت الحقائق مدفوعة برحابة نفوس وأرواح سوية صافية أزاحت ركام الوعي الزائف، فتردد في الأجواء كل الدوافع الحقيقية وراء أسطورة الحياة وسبب الموت في مسيرة الثعلب. وانتفض من وقعت عليه المظالم كافة، فأغشى بصره وتجلى ينشد في الفضاء الخالي محدقاً في رماد السحب…ثعلب يسكنكم جميعاً يا أهل المدينة. ثعلب الحق والباطل في خطاكم وسلوككم، الثعلب حلمكم الأبدى بالعدل. ثعلب الحقيقة التي تهدد وجودكم ووجوهكم الزائفة. ثعلب هو الطفل الأسطورة، هو ملاك الحقيقة المطلقة. ثعلبكم الكذب والصدق، وكلكم ثعالب تسعى في انتظار الحتف الحتمي الملائم لمساركم. وسبح للعلي القدير، فاعتلى بهاؤه الأفق لترفع الغيمة التي تحجب رؤية الآفاق العالية من قبل المحدقين بالآلاف من الواقفين على أرض المقابر في العاصمة الكبيرة.
ردد بقدسية وخشوع الراهب الحامل لميزان من ذهب: “كل منكم له مطلق الحرية في مساره وقراءة كتابه، فتح الصفحات أو طيها يعود لاختياركم، أطلقوا العنان للروح والنفس والعقل والبصيرة والحواس لتسير وتتجول في أفئدتكم، فلنر خطاكم أيها السائرون”. ارتجّ النعش وتهاوى بغتة، وسحبنا جسده الغريب فبانت الطعنات كندوب متسعة تفترش جسداً تبدلت هيئته، وطارت الحشود من فناء المقابر، وأتى الحفارون سبعة، وتوارى الجسد في نثار التراب، وتراجعنا تلفنا الرهبة والغموض والمتاهة نحن السبعة. سار كل واحد في طريق وبيده كتاب في يمينه محاولاً القراءة من جديد.