موديانو: أنا مفتون بأدلة التليفونات القديمة وأثر الآخرين

موديانو: أنا مفتون بأدلة التليفونات القديمة وأثر الآخرين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

ذات يوم، عثر باتريك موديانو في جريدة باريسية قديمة ترجع لأوائل الأربعينيات على إعلان صغير أثار عاطفته. الإعلان كان يقول: "جاري البحث عن صبية اسمها دورا بروديه، في الخامسة عشرة، طولها 1,55 متر، بوجه مستدير وعينين رماديتين أقرب للبني، وترتدي معطفاً رياضياً رمادياً وجيبة وقبعة سماويتين، وحذاءً رياضياً بني. من يجدها يتصل بالسيد والسيدة بروديه، بوليفار أورنانو، 41، باريس".

ذات يوم، عثر باتريك موديانو في جريدة باريسية قديمة ترجع لأوائل الأربعينيات على إعلان صغير أثار عاطفته. الإعلان كان يقول: “جاري البحث عن صبية اسمها دورا بروديه، في الخامسة عشرة، طولها 1,55 متر، بوجه مستدير وعينين رماديتين أقرب للبني، وترتدي معطفاً رياضياً رمادياً وجيبة وقبعة سماويتين، وحذاءً رياضياً بني. من يجدها يتصل بالسيد والسيدة بروديه، بوليفار أورنانو، 41، باريس”.

انشغل موديانو جداً بهذا الإعلان، وبالفتاة وبالحكاية التي تنبض، جزئياً لأنه زار كثيراً شارع مراهقته هذا. حينها تحول إلى مخبر سري خاص متعاقداً مع نفسه، وسريعاً اكتشف أن دورا بروديه كانت يهودية، ووراء هروبها من البيت حادثة اعتقال على يد الشرطة. فتحرى موديانو أكثر وراجع السجلات الشرطية وبحث في أدلة تليفونات باريس ببيته، كما بحث في سجلات المجلس المحلي والتقى ببعض شهود تلك الفترة والحي الذين استطاعوا أن يتذكروا بالكاد أنهم يعرفونها.

تجول كمخبر في الشوارع التي تجولت فيها دورا، ودخل مداخل البنايات التي سكنت فيها وبقى هناك، هادئاً، منتظراً لا يعرف ماذا ينتظر، وفي النهاية لم يعثر على شيء آخر. كان قد وصل لما يمكن أن يكون نهاية قصة دورا بروديه، دون أن يعرف عنها إلا القليل. حاول اقتفاء أثرها المختفي، مثل أثر كثيرين غيرها. مع ذلك، استطاع بالمعلومات القليلة التي لديه أن يشيد عالمه الروائي، أن يطرح أسئلته وهواجسه وبحثه، فكتب جوهرة ثمينة محركة للمشاعر عنوانها “دورا بروديه” التي تتحدث عن الذاكرة، الكرامة والحياة. وبعد نشرها، حصل على معلومات أكبر حول دورا، وبدأ يسأل نفسه هل يعيد كتابتها أم لا. فاستقر أن لا. يقول موديانو: “لست مؤرخاً، أنا روائي، ولا يهمني كثيراً نتيجة البحث بقدر ما يهمني البحث نفسه، وهكذا بقت الرواية على حالتها”.

* لماذا هذا الانشغال بشخص لا تعرف عنه شيئاً؟

– سألت نفسي كثيراً هذا السؤال: “لماذا تشغل نفسك بآثار الآخرين؟ وأعتقد أن السبب أنني أعيش في القرن العشرين أو الواحد والعشرين. ربما لو عشت في القرن التاسع عشر لكتبت روايات ريفية: طويلة ومستديرة وكاملة. لكن الفترة التي نعيشها هي فترة التشظي، والمدن الكبرى تحفز على هذا، تحفز على التجهيل، على ضياع آثار الآخرين. لا أعرف إن كانت وجهة نظري واضحة أم لا. الحقيقة أيضاً أنني دائماً ما يلفت انتباهي الاختفاءات، والغيابات. لهذا أفتن بأدلة التليفونات القديمة التي تظهر فيها أسماء المختفون، لأن عاماً وراء عام هناك من يرحل، من يمشي، خاصةً في الأحياء والقرن الواحد والعشرين.

* تتطور رواياتك تحديداً في جزء محدد من باريس، حيث القرن السادس عشر، بالقرب من تروكاديرو، الذي لا يتميز بأي شيء. لماذا؟

-لهذا تحديداً، لأنه لا يتميز بشيء خاص. كثيرون يعتبرونه حياً برجوازياً، لكنه ليس كذلك تماماً، فهناك جزء مجهول بالحي، بلا آثار تاريخية، حيث لا يمكن لأحد أن يتخيل أشياءً. في أحياء باريسية أخرى تشعر بأنك محاط بالتاريخ. في تروكاديرو ومحيطه يمكن أن تلاحظ الشوارع والناس التي تعيش بطريقة شبه متوحدة. إنه حي حيث، في شوارع محددة، كان الناس يختفون كثيراً. حي برجوازي نعم، لكن أيضاً به جانباً غريباً. ثم أن هناك ذكريات طفولتي ومراهقتي.

باتريك موديانو طويل جداً، لطيف جداً، خجول جدًا، وساذج بعض الشيء. يتردد عندما يتكلم، ويصعب عليه إنهاء العبارات، وعبارته المتكررة “لا أعرف إن كانت وجهة نظري واضحة أم لا”. يعيش في بيت قديم في ظهر حديقة لوكسمبورج، ليس بعيداً عن الحي الذي قضى به جزءاً من طفولته، ما يعني أنه مرتبط بالزمن والذاكرة. والغرفة التي يكتب فيها شبه دائرية، مغطاة بالكتب في جوانبها، وبها نافذة عالية أيضا تطل على حديقة داخلية بها كرسي قديم يجلس عليه ليقرأ عندما لا يكتب. ويكتب ساعتين أو ثلاث ساعات يوميًا فوق مائدة معلقة أمام النافذة والحديقة. لا شيء آخر. يؤكد أنه لو استجاب لطبعه، سينهي الرواية دفعة واحدة، دون توقف، لكنه يجبر نفسه على التوقف بمرور هاتين الساعتين أو الثلاث ليتراكم العمل نفسه على مهل.

* لماذا عناوين وأرقام البنايات دقيقة جداً؟

-باريس رواياتي، غير أنها باريس منذ عدة عقود، هي باريس داخلية، شبه متوحدة، باريس ولدت من أشياء تركت فيّ انطباعاً عندما كنت مراهقاً. ولتطوير هذا الجانب، حرصت على أن تكون العناوين مضبوطة. ربما تكون البناية بلا قيمة، لكن موقعها في الرواية يكملها. الأمر مثل لوحة مارجريت: الأشياء، رغم طابعها الفردي، مرسومة بشكل شديد الدقة.

* أتشعر أنك تكتب باستمرار نفس الرواية؟

-نعم، نعم. انتبهت أنني أكرر نفسي: دائما هناك أحد يبحث عن أحد، أو أحد يحاول استعادة آثار أحد. دائماً هكذا. ودائماً بشكل غير واعٍ. بعدها أقول لنفسي: انظر، لقد قلت هذا. لكن الأشياء تعود. إنها كتابة نابعة من شعور حميمي بالغياب، بالهجران. لهذ أحاول البحث عن آثار الأشخاص.

* هل يمكن أن نقول إن طفولتك المادة الخام لأعمالك؟

-ربما. لكن ليس كنوع من النوستالجيا للطفولة. بل بالأشياء التي لاحظتها وأثارت عاطفتي خلال تلك الفترة. ثمة نوع من الانتباه الخاص، الذي يحتفظ بالانطباعات بقوة، تمتلكه وأنت طفل. بالإضافة، تلك الفترة كانت حزينة بالنسبة لي: أعرف أن هناك أطفالاً سعداء، لكنني لم أكن كذلك. ثمة محادثات لا تفهمها جيداً لكنها تترك فيك الخوف. عندما كنت طفلاً، كنت أتجول وحدي بباريس. كان ذلك صادماً لسني لأن الأطفال عادةً لا يتركونهم للتجول بمفردهم. وكنت أستطيع. كنت أجرب الخوف والفضول في ذات الوقت. لذلك فانطباعات الطفولة الأولى وصورها تبقى للأبد.

* في رواياتك، تشعر الشخصيات دائماً بالرغبة العارمة في الهروب، بترك الحياة خلفها.

-هذه المشاهد أيضاً تأتي من أشياء عشتها في طفولتي ومراهقتي. تأتي من الشعور بأني سجين (قضيت فترات طويلة في مدارس داخلية شبيهة بالسجون). بالإضافة، يحدث ذلك بشكل عام للمراهقين بين الـ 17 والـ 20، وهي الفترة التي لم تبلغ بعد السن القانوني في فرنسا كما انك لست مراهقاً بالمعنى المفهوم.

* الجراجات أيضاً تظهر كثيراً في رواياتك.

-تأتي من اللاوعي. تأتي من الطفولة. لا أعرف تحديداً لماذا. عندما كنت طفلاً في السادسة أو السابعة كنت أعيش بالقرب من حي من ضواحي باريس، وكانت ترعاني امرأة غريبة بعض الشيء وتصحبني إلى جراج مليء بالسيارات. بالإضافة، كانت هناك رائحة خاصة جداً، خليط غريب، جو غريب، وأنا لا أعرف لماذا ترك في أثراً. أحياناً اقول لنفسي: هناك جراجات كثيرة في الروايات، لكن لا يمكن تجنبها.

مقالات من نفس القسم