لقد تزايد الاهتمام بظاهرة الفساد خلال العقود الأخيرة بشكل غير مسبوق، وتواترت تبعا لذلك العديد من الدراسات التي تتفق على خطورتها وآثارها خاصة على الفئات التي تعاني من هشاشة اجتماعية. ويرى مختلف الخبراء أن الدول الفقيرة هي التي تتحمل أكبر الأضرار في هذا الجانب، بسبب افتقارها إلى مقومات مكافحته بالرغم من توقيع بعضها وتصديقها على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (2003).
في هذا السياق يشير سمير التنير الخبير لدى الأمم المتحدة في كتابه “الفقر والفساد في العالم العربي” الصادر ببيروت في العام 2009، إلى أن الفساد أكثر انتشارا في دول العالم الثالث لأن الوصول إلى الحكم يتم فيها بطرق غير مشروعة مما يؤدي إلى “قيام السياسيين باستغلال مراكزهم من أجل المنفعة الخاصة” (ص17)، أي إلى الفساد إذا اعتبرنا التعريف الذي أعطته عدد من المؤسسات الدولية المعنية لهذه الظاهرة.
هذا الطرح يجعل مكافحة الفساد تدور في حلقة مفرغة، شبيهة بالحلقة المفرغة كما عبر عنها عدد من الاقتصاديين في تحليل أسباب التخلف. ذلك أن ممارسة السياسيين للفساد، يؤدي إلى “إجراء تغييرات في بنية الدولة وفي قلب المعادلات السياسية” (ص21 ) وبالتالي استغلال ضعف السلطة وآليات المراقبة لتحقيق المصالح الخاصة من خلال تجاوز القوانين ونهب المال العام الذي هم مؤتمنون عليه، وهكذا في شكل دائرة يصعب نسفها.
الفساد بهذا الشكل يحرم الكثير من أفراد المجتمع من إمكانيات الوصول إلى الخدمات العامة الأساسية وكذلك من جزء كبير من نصيبهم في الثروة الوطنية، ويكرس واقع الفقر ويزيد من معاناة الفقراء “فالفساد يمثل الشر الأساسي (الذي) يدع الملايين من البشر أسرى البؤس والفقر والمرض والصراعات وأشكال الاستغلال الوحشية” (ص29).
لكن من أين، تحديدا، يأتي الفساد حاملا معه غبار الفقر؟.
بالإضافة إلى ضعف السلطة السياسية هناك عدة أسباب متعارف عليها في كل الأدبيات التي تناولت هذه الظاهرة، من عدم تطبيق القوانين، والثغرات التي يمكن أن تتخلل مساطر خوصصة ممتلكات الدولة أو إبرام العقود الحكومية المتعلقة بصفقات مشاريع المنشآت والبنيات الأساسية، وعدم وضوح آليات التوظيف في المناصب العمومية، بيد أن التنير يلقي باللوم بشكل كبير على العولمة التي انخرطت فيها دول العالم طوعا أو كرها.
فبعد أن يعمل على تقديم بعض التعريفات المتداولة للفساد ونتائجه، وتناول بعض مظاهر الفساد السياسي وتأثير المال في الحياة السياسية حيث يتدخل من خلال التمويل في رسم المشهد السياسي والانتخابي مع ما يترتب عنه من تهديد للممارسات الديمقراطية ولمؤسسات الدولة وهيبتها وبالتبعية فقدان الناس للثقة فيها، ينتقل بشكل مفاجئ لمناقشة الفقر في العالم العربي، انطلاقا من تقارير بعض المنظمات الدولية التي لا تتضمن “إحصاءات تشير إلى التقدم، بل إلى ظواهر توصف بالاستبداد وعدم الشفافية” التي يرى فيها “مؤشرات دالة في قياس الفقر” (ص 45).
وعلى غرار الفساد، يضيف التنير إلى أسباب انتشار الفقر في الدول العربية ( ندرة الموارد الطبيعية والسياسات الاقتصادية المفروضة من البنك وصندوق النقد الدوليين التي لا تراعي الأبعاد الاجتماعية لأفراد المجتمع، وارتفاع عدد السكان، وغير ذلك)، أسبابا أخرى ترتبط في الأساس بانفتاح اقتصاد الدول العربية على الاقتصاد العالمي “والتجاوب مع أجواء العولمة … خلال العقدين الماضيين” (ص54 ).
تبدو العولمة في الكتاب بمثابة الشر المطلق بسبب آثارها الجانبية على الدول التي ركبت قطارها، لأنها قضت على الدولة الراعية أو قلصت من أدوارها في “الدعم” الاجتماعي لأفرادها الفقراء على الخصوص. في هذا السياق يجزم الكاتب بأن رياح “العولمة سيئة الذكر” (ص 20) هي السبب الأهم في اتساع دائرة الفقر الذي “باتت إزالته أمرا صعبا جدا”. هذا الحكم الجازم، وبالرغم من الطابع الشمولي للعولمة، دفع بالمؤلف إلى الإقرار بأن تقليص الفقر يكمن في “الانتقائية في تطبيق مبادئ العولمة”. بيد أن هذا الأمر يبدو صعبا في الواقع، وذلك انطلاقا من تحليل اتجاهات الاقتصاد العالمي خاصة مع تراجع النموذج الاشتراكي منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
وقد خصص التنير فصلا من كتابه لهذه الاتجاهات، قدم فيه أفكارا تتعارض إلى حد كبير مع حكمه السابق. فالدول الصناعية المنخرطة بشكل كامل في مسلسل العولمة تحظى بنحو ثلثي الاستثمارات الأجنبية عبر العالم، وغير خاف أن هذه التدفقات تساهم في تقليص معدلات البطالة التي هي نتيجة لفقر الدولة وسبب من أسباب فقر سكانها. ومهما يكن الموقف من العولمة التي لها بالتأكيد شرورها، لأنها قائمة على فكرة “الخمس الغني في مقابل الأربعة أخماس الفقيرة” كما جاء في كتاب “فخ العولمة” لمؤلفيه هانس بيتر مارتن وهارالد شومان، فإنه من المستبعد استفادة الدول العربية من محاسنها بدون الانفتاح على الاقتصاد العالمي.
لا يتعلق الأمر هنا فقط بجذب الاستثمارات الأجنبية، بل أيضا بصعوبة التكامل الاقتصادي العربي نتيجة التبعية للغرب على الخصوص، المتولدة عن التقسيم الدولي للعمل الذي وضعته الدول المتقدمة (اقتصاديا وعسكريا وإعلاميا) فغدا من شبه المستحيل، خاصة في ظل الخلافات العربية والأوضاع الراهنة غير المستقرة، إطلاق العنان حتى للتفكير في إمكانية الحد من هذه التبعية. وإذا كان الكاتب يدعو إلى زيادة التصنيع ورفع وتيرة البحث العلمي ووضع حد لهجرة الأدمغة لتحقيق نقلة اقتصادية تقلص من معدلات الفقر والبطالة فهو يؤكد على أن هذا لن يتحقق إلا عن طريق رفع الاستثمارات، ومعلوم أن ذلك لن يتم فقط من خلال الاستثمارات الوطنية، بل الأجنبية أيضا. أضف إلى ذلك أن الغرب، على وجه خاص، هو الذي يملك المعرفة العلمية “التي يحتكرها عدد قليل من الدول أهمها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وروسيا” (ص 122)، وبالتالي تبدو قضية منع هجرة الأدمغة مرتبطة على وجه مؤكد بخلق فرص لجذب رؤوس الأموال الأجنبية المالكة لتلك المعرفة، وهذا لن يتحقق دون الانخراط في “التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد العالمي” التي تسعى بشكل متزايد لخلق عالم معولم أكثر فأكثر، تتجاذبه المنافسة بين الدول على أكثر من صعيد، ويؤثر فيه الاقتصاد الأمريكي على نحو كبير باعتراف المؤلف نفسه، حتى “بات أي اقتصاد غير قادر على التطور بمعزل عن ظاهرة العولمة التي غيرت البيئات الاقتصادية كافة في العالم” (ص 122).
يخلص سمير التنير في كتابه إلى استعراض نتائج العولمة “سيئة الذكر” التي بالرغم من سوء ظنه بها، لم يتوان في التأكيد على عدم إمكانية تجاهلها، فإذا كانت في نظره سببا مباشرا في ارتفاع معدلات الفقر ومؤشرات الفساد، فسرعان ما تغيب هذه القناعة من خلال اعتباره لها في أكثر من موضع الجزء الأساسي من الحل. بل إنه يراجع حكمه المطلق بشأنها داعيا إلى “دراسة العولمة بشكل شامل واستعمال مناهج البحث كافة” (ص 154)، للكشف عما لها وما عليها.
وبعد، لم يعالج المؤلف بشكل فعلي “العلاقة الجدلية بين ظاهرتي الفقر والفساد” كما ورد في الغلاف الأخير للكتاب عدا إشارات خفيفة هنا وهناك لا تروي عطش القارئ. فقد انتقل من معالجة الفساد، إلى الحديث عن الفقر، ثم إلى تحليل بعض الظواهر الاقتصادية وانعكاسات العولمة على اقتصاد الدول العربية، دون أن يجيب على السؤال الأساسي الذي يطرحه عنوان كتابه “الفقر والفساد في العالم العربي”.
ــــ
جمال الموساوى – كاتب من المغرب