مصطفى ذكرى مؤلف جدير بالاحتفاء، لأنه مختلف، السؤال المحورى فى مجموع أعماله هو كيف يواجه الإنسان قوى الشر فى هذا العالم الشرير، هذا العالم الذى تنتشر فيه خبائث الأشرار وقسوتهم فى كل ركن من كل شارع ومن كل بيت، حتى على يد الأطفال أو الحيوانات، أو أن يصاب الإنسان بضربة سكين فى وجهه دون أن يعرف السبب، الإنسان البسيط الذى يقترب من حد البراءة بل السذاجة، الذى يعيش فى متاهة حقيقية فى خضم هذا العالم. ماذا يفعل هذا الإنسان؟ يتمرّد على الظلم بين وقت وآخر؟ يتقبل الظلم راضخا صامتا؟ يغلق على نفسه أقفال باب منزله ولا يغادره؟
أصدرت دار التنوير ست روايات قصيرة لمصطفى ذكرى فى مجلد واحد، والواقع أن الجو العام متقارب جدا فى تلك الأعمال، لنبدأ بالعمل الأول الذى يوضع اسمه على غلاف هذه المجموعة وهو (ما يعرفه أمين). تتضح فى هذا العمل بشدة حقيقة أن المؤلف سينارست ودارس للسينما، فالعمل يتكون من مجموعة من المناظر المتتالية، كما لو كان المؤلف يكتب سيناريو فيلم.
المنظر الأول: (ليل/داخلى) كما يقول السينمائيون، نرى أمين فى شقته التى يعيش فيها وحده، متنقلا بين الحجرات المختلفة، ثم حجرة المكتب، والحمام، والمطبخ، نلاحظ أن أمين يتابع بنصف انتباه فيلما أمريكيا من أفلام الخمسينيات، من بطولة كلارك جيبل ومارلين مونرو، اسمه (غير المنسجمين مع المجتمع) بالإنجليزية the misfits. قد تكون إحدى مشكلات أمين هى الوسواس القهرى، إذ هو يذهب عدة مرات إلى باب الشقة للتأكد من أن الترابيس مغلقة وفى مكانها.
المنظر الثانى: (ليل/خارجى) عندما يذهب أمين إلى بقّال الحىّ الذى يتردد عليه دائما، نكتشف أن البقال (ويا للعجب) يشاهد هو أيضا نفس الفيلم الأمريكى. يقوم مساعد البقال بإعداد الشنطة البلاستيكية التى تحوى الطلبات المعتادة (جبن/لبن/خبز/ إلخ).
المنظر الثالث: يقع أمين ضحية للمزاج السخيف لمجموعة من شباب الحىّ، الذين يعتبرهم من بين أصدقائه، وأسماؤهم هى نُنَّه وعادل ريتا وبوسى، فإن لم يكن كلهم أصدقاءه فعلى الأقل بعضهم، إلا أنهم فى الواقع يتخذونه مادة للسخرية، وهو إما أنه يجهل هذه الحقيقة، وإما أنه يتجاهلها. كانوا يجلسون فى مقهى عندما رأوه يخرج من البقالة فتبعوه، وقادوه إلى الحديقة اليابانية التى كانت خالية فى هذا الوقت من الليل، إذ إنهم يلعبون معه لعبة (صلّح) إلا أن الخبطات عنيفة جدا لدرجة أنها تسقطه فى ماء بحيرة الحديقة الراكد، هم يتبارون فى توجيه لطمات شريرة إليه، وهو يتظاهر بأنه يصدّق أن المسألة مجرّد دعابة، ويتقبّل دون اعتراض.
المنظر الرابع: أمين يسير فى الشارع المؤدّى إلى فندق كليوباترا. يحاول أن يتجنب الكلاب النابحة الرابضة أمام الفيللات فى هذا الحى المنعزل. يظهر له صبى صغير ليرشده إلى الطريقة التى يواجه بها خطر هذه الكلاب، بتوجيه ضربات بالقدم إلى أشياء متحركة مثل الزلط وأكياس القمامة صغيرة نحو رؤوس الكلاب، مع إطلاق صفّارة هادئة بالفم.
المنظر الخامس: أمين يصل إلى الفندق. موظف الاستقبال يشاهد نفس الفيلم (غير المنسجمين). هناك فى الفندق طفلان صغيران نكتشف أنهما حفيدا موظف الاستقبال اللذان يلاحقان أمين حتى غرفة نومه المغلقة ويستغلان غيابه فى النوم، ليضع أحدهما يد أمين فى كوب ماء مثلج، ويتسلق الطفل الثانى كتف أمين. الطفلان البريئان يلعبان، لكن هل هذا اللهو برىء؟ النتيجة هى أن أمين لا يستيقظ بل يظل نائما، ولكنه يشعر بالخطر فى أثناء نومه، فيتبوّل فى الفراش.
المنظر السادس: (من الرواية الثانية: هراء متاهة قوطية) نرى البطل الذى يشبه أمين فى كل شىء حتى فى مجموعة أصدقائه، إذن نحن نرى أمين من جديد مع نفس الأصدقاء، ننّه وعادل ريتا وبوسى، وهو يُنقل إلى المستشفى بسبب إصابته -بشكل عبثى غير مبرّر- فى وجهه بجرح قطعى، تسبّب له فيه السكين الذى كان يحمله صديقه بوسى فى يده ليدافع به عن شرف أخته وفديّة.
المنظر السابع: أمين فى قاعة بالمستشفى يتأمّل طرازه القوطى، (وهو طراز معمارى أوروبى، ولكنها أيضا الكلمة المستعملة Gothic حاليا للتعريف بنوع من فنون البورنو)، يسرح بخياله فى تأملات جنسية تثيرها فيه الممرضة التى تقوم بغسل أرضية القاعة بالماء والصابون.
المنظر الثامن: (نهار/خارجى) أمام مراحيض النساء فى الحديقة اليابانية بحلوان، حيث كانت والدة الممرضة تعمل حارسة للمراحيض، وكان تلاميذ المدرسة الثانوية العسكرية يدفعون لها خمسة جينهات كلٌّ منهم، وهى فلوس دروس الكيمياء، مقابل استغلال المراحيض فى ممارسة علاقات جنسية سريعة معها، فى حين كان ينتظر الباقون أدوارهم جالسين على تلاميذ بوذا.
المنظر التاسع: (من الرواية الثالثة: الخوف يأكل الروح) نرى تقريبا نفس البطل (أمين) وقد تقدّمت به السن قليلا، وهو يتردّد على فيللا قديمة فى جاردن سيتى يقيم فيها زوجان مسيحيان هما جورج ونانا، وهما فى الخمسينيات من عمرهما، ويعيش معهما فيها تونى وهو كلب دوبرمان عجوز. يبدو أن جورج كان قاسيا جدا على كلبه، فبعد إصابة جورج بعاهة فى ساقه إثر حادثة جعلته يعرج، صنع هو بنفسه عاهة فى ساق كلبه ليعرج مثله. الأغرب هو أنه فعل الشىء نفسه مع زوجته.
المنظر العاشر: فى نفس الفيللا، حيث نرى ننّه تتنقل بين الأماكن إلا أنها بمرورها أمام المرايا نلاحظ أن صورتها لا تظهر فى أية مرآة. كما أنها بمرورها أمام مصادر الضوء لا ظل لها على الأرض أو على الحوائط.
المنظر العاشر: يموت تونى ويصاب جورج بالجنون. هنا يدخل بطلنا إلى المنظر، ولكنه يحمل اسم مصطفى، الاسم الأصلى للمؤلف ليساعد الزوجين فى التغلب على الأزمة.
يأتى هنا تتابع مجموعة من المناظر القصيرة التى تبدو كما لو كانت غير مترابطة. منظر فتاة مجنونة تسير بأقدام مفلطحة على أسفلت شارع فى حلوان. حوار مع أنثى حول موضوع الممارسات الجنسية. ثم متاهة حقيقية بين النيسابورى/الخوارزمى/الطبرى/الأب لويس شيخو اليسوعى/الباروك/السيريالية/النيتشوية/السنتيمنتالية/الديونيسوسية/ إلخ.