“حطب معدة رأسي” لمصطفى ذكري البحث عن شرعية الأدب الناقص!

"حطب معدة رأسي" لمصطفى ذكري البحث عن شرعية الأدب الناقص!
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ما هذا؟ ماذا لدينا هنا؟ شذرات، قصص غير مكتملة عمداً، لقاء بين صاحب اليوميات و"بيتر الأحمر" قرد كافكا في كوّة المجاز، اقتباسات سينمائية، أفكار عن الأدب والفلسفة. ماذا أيضا؟ قصص تسعى للكمال ثم تقضي على كل فرصة لتحقيقه بضربة معلم متعمدة. نعم، لدينا هذا كله وأكثر. بهذا، وعلى ما يعترف مصطفى ذكري في "حطب معدة رأسي" الصادر عن "دار العين"، نحن إزاء نأي متعمد عن السرد المعتاد.

يبدأ الكاتب نصه من أرض المعرفة التي في متناول اليد، محاولا بلوغ أرض مجهولة في فضاء السرد. شذرات تتوالى في محاولة لتشكيل بناء اسلوبي ما، أو جملة أدبية اعتراضية جديدة. مزج فني لجملة أدبية رشيقة تحاول اقتناص معنى فلسفي مجرد، نفترض جميعا أنها يوميات كاتب يبتغي اقتناص الفكرة المتسكعة على جدران الغرفة وسقفها ليحولها منشطات للكتابة الحقيقية.

يعود مصطفى ذكري للمرة الثانية إلى اليوميات وهي السمة التي يمنحها لهذا الكتاب، لكنه في تقديري الاسم الافتراضي لنصوص تعارض السائد، اسلوبا وفكرا ومنهجا، وتبحث عن النقاء الأدبي، وتخلص للحرف والجملة أولا ولتفجير الأدب من الذاتية والذاكرة والذهنية معاً. لكنه في هذه المساحة يمارس العابا عدة، ومع التدريب المستمر تصل الجملة إلى حد جديد من الرشاقة يتفوق على منجزها في اليوميات السابقة، كما تتنوع مناهل الإلهام فيها بين الأدب والمعرفة والفلسفة والسينما، خصوصا السينما، والذكريات والتخييل ورصد اليومي وسوى ذلك.

يقف امام مرايا الذات مرةً، ومرايا الكاتب والأدب مرات، كأنه يدخل إلى غرفة تتعدد فيها ألوان المرايا وأنواعها. نجده في غرفة متعملقاً مغتراً بذاته، غروراً يتكئ على انتسابه إلى مهنة الكتابة حيناً، أو إلى مجرد اتهام الآخرين بأنهم في مرتبة تالية حيناً آخر، مُطلقاً أحكاماً فنية قاطعة، بل وأحكاماً أخلاقية مريعة في حدتها، ثم سرعان ما يتسلل ليقف أمام مرايا موضوعية أخرى يبدو منتقداً ذاته، كاشفاً ضعفه الشخصي مرة، وضعفه ككاتب مرات.

حين يهرب من الذات سرعان ما يلجأ لمعين الصورة المتحركة؛ يعيد اكتشاف مشاهد من سينما النخبة، الأميركية والأوروبية، التي يعدّ مؤرخاً ومتذوقاً جيداً لها، وأحياناً لنصوص من الأدب، كافكا على نحو خاص، الموصوف يوماً بأنه عبقرية لا تتكرر إلا كل قرن من الزمان، كاتب الرسائل الشهير، وأحد الكتّاب المفضلين عند ذكري بين ثالوثه الكلاسيكي الأثير، كافكا، بروست، وجويس.

كافكا له حضور خاص جدا في هذه اليوميات، ما يستدعي بحث أطياف التقاطع بين نصوصه ونصوص ذكري. هناك بالإضافة إلى الاستشهادات والاقتطافات التي ينثرها الكاتب بين آن وآخر، سمات أسلوبية من كافكا، وخصوصاً في النصوص التي تنشغل بالتخييل وتبدأ من نقطة سردية محددة، تتعاقب، ثم تنقطع باستطراد يبدو كأن لا علاقة له بما قبله، والتركيز على المسار الجديد بلا عودة إلى نقطة البداية.

بعض نصوص هذه اليوميات تمثل إعادة لكتابة نصوص بقلم كافكا، يضعها ذكري تحت مشرح التخييل، كأنها محاولة للاعتراف بالامكانات المستمرة والممكنة لكل نص، واستدعاء سمة خاصة من سمات كافكا الذي صدرت روايته “المحاكمة” مثلا، بأكثر من 18 طبعة مختلفة.

يأتي كافكا نفسه بطلاً سردياً لقصص قصيرة يكتبها ذكري محاكيا واقع الكاتب التشيكي، لكنها مطرزة بالفانتازيا والتخييل. أي أن بعض نصوص كافكا ويومياته تعمل دورا تحفيزيا في تنشيط الإلهام التخييلي للكاتب هنا، فيكتب أربعة نصوص كل منها تنويع على نص “استعدادات حفل زفاف” الناقص والمليء بالثغر.

كافكا، أيضا، هو الكاتب صاحب النصوص التي أثارت قراءتها تطرفات نقدية عدة، بين قائل بعبقرية لا نظير لها وبأسلوب خاص يحمل توقيعه، وآخرين يرون في الكتابات الكافكوية الاكتئاب والهواجس والمتاهات، تماماً كما هي نصوص مصطفى ذكري التي تمنح تطرفات نقدية عدة، ما بين مريدين يقدّرون الصنعة الباهرة، والعناية المفرطة باللغة وبالأسلوب، وبالحال العامة لسرد يبدو مزيجاً من الجمل الاعتراضية والشذرات المنمقة الغارقة في عالم الغرف المغلقة، المفتوحة جدرانها على خيال السينمائيين والكتّاب، المغموسة بهواجس العصاب والاكتئاب ووصف الصراع الضمني الخفي المستمر بين إرادتين: إرادة الكاتب الملتزم وإرادة المتأمل الشارد الكسول صاحب الأفكار المتسكعة. أما المعسكر الآخر، صاحب الموقف العكسي لنصوص ذكري، فيمثله الرافضون بشكل مطلق للأسلوب والشكل والذهنية المفرطة ومبدأ الفن للفن إجمالاً.

في هذه المساحة الهائلة من منشطات الكتابة، يستخدم الكاتب لغته المقتصدة المكثفة المكتوبة بعناية بالغة، لكنه ينوّع أيضا بتجريب العامية في شذرات متباينة، كما يجرّب نَفَساً رومنطيقياً غنائياً في أحيان أخرى، مستلهماً من الشاعر الغنائي أودين: “أوقفوا الساعة، اقطعوا التلفون، امنعوا الكلب من النباح، واللهاث بعظمته. صمت. بيانو يعزف، وصوت يئن. احضروا التابوت إلى هنا وأقيموا الحداد”. في إلغاء كامل للذات، أو كما يصف هو ذلك بقوله: عادة الهرب الكبير؛ التمسك بآخر وإلغاء الذات نهائياً، والآخر هنا هو الشاعر أودين. استطراداً، فإن هذا النص يتضمن انتقالا مبهرا من لقطة يقضم فيها الكاتب رأس أرنب مسلوق، يمر منها على أودين كفاصل يقطع بين اللقطة ولقطة تالية لصورة من الذاكرة يرى فيها الجدة تذبح ارنبا. في تفسيره الشخصي لما يقصده يقول: “أمَّا الأرانب فإن نداء ذبحها وصرختها الإنسانية تنال من قدرتي على عدم التشهير بالمعاني الكبرى ومن بينها الصداقة وأخواتها يعني الإنسانية، بل التشهير بنداء أودين ذاته لأنه في النهاية عاطفي ووراءه ما وراء الأكمة والعاطفة ورطة يا صاحبي”.

إذا ابتعدنا قليلا عن التفاصيل والشذرات لكي نتأمل الكتاب من بعيد، يمكن القول إن يوميات مصطفى ذكري تجسد في جوهرها كتاباً يقدم نموذجاً فنياً لرفض التيارات الأدبية السائدة اليوم في السرد العربي، ولمناخ الأدب السائد عموما؛ بما يسيطر عليه من ظواهر الكتابة الخفيفة، والدعائية، واستسهال الكتابة، والسعي للجوائز والمجاملات وغير ذلك من مظاهر الوسط الأدبي العربي.

أما على مستوى البناء فمن الجلي أنه يستبدل الأسلوب بفكرة البناء نفسه، مقدماً نماذج لتأمل وحدات البناء: الكلمة والحرف، ولوج معمل الكتابة، وإجراء اختبارات على تفاعلات الحروف والكلمات والجمل اللغوية، وإقصاء كل ما هو صاخب دراميا، والحفر بأدوات المعمل في المناطق الضعيفة جدا التي تبدأ مباشرة بعد ذروات الدراما والانفعال. وليذهب المبنى إلى الجحيم. خيانة متعمدة للبناء، الذي اظنه غاية الكتابة ومنتهاها.

كأن هذه النصوص التي تمثل متن هذا الكتاب، تصرخ ضمنيا: “فلتسقط الكتابة”، ثم تصرخ “تحيا الشذرات والشظايا”، وتعود لتناقض نفسها بهتاف مناقض بديل هو “تحيا الكتابة”.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم