ولكن، لا أعلم لماذا حينما وقعت عيني على اسم “إيناس حليم” على غلاف مجموعتها الجديدة “تحت السرير” حتى أمسكت بها واشتريتها غير معنية بما ذيلته بعنوانها بأنها “بورتريهات بالعامية”، الحالة التى كانت قد وضعتني فيها إيناس فى مجموعتها السابقة “يحدث صباحًا” ومستوي الإدهاش الذي سيطر عليّ فى كل نص من نصوصها، وتوليفتها العجيبة غير المعتمدة على الشكل التقليدي للقصة، جعلني أشعر أن عاميتها هي الأخرى ستكون مدهشة، وقد كان.
حينما أعجب بلغة كاتب، اتعمد أن أرفع صوتي أثناء قراءة نصوصه، يطربني وقع اللغة على أذني كسيمفونية، هذا ما فعلته “إيناس” ولكن هذه المرة بعاميتها، هي أيضا –حسب ظني-تعلم ذلك، لذا أرفقت بالمجموعة “سي دي” مسموع بصوتها وآخرين.
تقحمني إيناس فى عالمها، وتجاربها الحياتية الثرية، أحببت الإسكندرية رغم عدم زيارتي لها، فى مجموعتها السابقة “يحدث صباحًا” بشواطئها ونوارسها، وهنا فى مجموعتها الجديدة أحببت النوبة، وعاداتهم مثل “تبخير العرسان وصب اللبن بالسكر”، والعروسة التى “ترش اللبن على وش العريس وهو يكب البلح على طرحتها “فى قصتها “طبق الحنة.
ذكريات المراهقة للبنات وأحلامهن البكر، التى تنثرها “إيناس” عبر بورتريهاتها، مثل قصة “أحلي الأوقات سيرة بنات”، والسهر فى البلكونة حتي الفجر، والرغي، ورمي أكياس المية على الناس فى الشارع، ركوب القطر وأكل اللب، والضحكات المجلجلة، و”كتابة الأحلام فى ورق وتعليقه بالمشبك فى فروع شجرة مريم، التي تتطاير أول كل شتا” كما سردت فى قصتها “طبق الحنة”، وتحول هذه الأحلام البريئة لطاقة نور يحتفظ بها الصغار داخل أدراجهم، ولكنها تختفي مع الكبر “قصة “بعترة مطر””.
النماذج البشرية التى تستعرضها إيناس من طبقات كادحة ومظلومة، ترسمها بشكل واقعي وبريشة جميلة، دون بخل بمأساتها، ودون أن تثقل قلب قارئها، كالفتاة التى تزين العرائس فى “طبق الحنة”، والفلمنجو أبو أحلام تشبه الأوراق التي يطبقها فى قصتها “نوتة زرقا”، وابنة بائعة الخضرة فى “فرشة أم صباح”، وعاملة التنظيف فى قصة “الرحمة”، وعاليا” فى قصتها “عمر الخيام”، والمجند فى “سلم خشب””اللى مكنشي غاوي الشعلقة زي ما الناس فاكرة”، والخادمة الصغيرة “سما” التى لم تعد تشبه فاتن حمامة فى دعاء الكروان.
تميزت مجموعة حليم بحوارات مكثفة وذكية، سواء بين شخصيات أو المونولوج الداخلي، فجاءت غير منتهية الصلاحية، معتمدة على مبدأ “ما قل ودل”.
رصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فى مشاهد غير تقليدية، كمشهد التنجيد فى قصتها “تحت السرير” وتحول المرتبة اللى كانت “علو كدة، وتفرد أجدعها ظهر”، إلى واحدة “فطسانة زي يوميها”.
وكذلك محاولات التعويض التى تقوم بها النماذج الكادحة، مثل “أم أحمد” التى تعوض قلة المال يوم تنجيد زفافها، والذي جعلها تكتفي بلحاف واحد ومرتبة واحدة، حتي قامت يوما بتأجير الجراج وتنجيد “سبع تلحفة وست مخدات ومرتبتين”، والفلمنجو بطل قصتها “نوتة زرقا” الذي “يحوش البدايات فى برطمانات إزاز يقفله كويس بعد ما ينهي الحكاية بمزاجه ويطلعه كل ما الدنيا تضيق”.
حتى “انكسارات الغلابة” رصدتها بشكل مختلف، مثل الفتاة “اللى قلبها مليان حواديت” حينما فشلت فى توزيعها “كركبت جوا قلبها فشاخ، وكرمش، بينما حبيبها لم يستطع إلا “الطبطبة”.
والتجارة بأحلام الغلابة صورتها “إيناس” بشكل بديع ومكثف، مثل المذيع الذي يعرض قصة “صباح” التى بترت ساقها لخطأ طبي، وجعلها مجرد حلقة “تدمع لها العيون وتنجح برنامجه”، بينما تريد أمها رجل بلاستيك وعمرة، فيما تريد صباح “أن تلعب الحجلة مع العيال والنط فى قلب المرجيحة من غير ما حد يسندها”، و”عاليا” الفتاة الوحشة التى وظفوها فى الفندق فقط حينما تحرشت الزبائن بالبنت الحلوة، وحفاظا على سمعة الفندق.
وهكذا نجحت “إيناس حليم” مرة أخرى بجدارة فى صنع الدهشة من خلال حكاياتها بالعامية التي تنتهي من قراءتها وثغرك مفتوح وقلبك مثقل بتلك الحكايات التى تلمس فى إحدي زواياها أو شخوصها أو مواقفها أحلامك البكر.
…………………………………………….
*اسمعوا قصة “فرشة أم صباح” بصوت “زينب فرحات”
https://soundcloud.com/zeinab-farahat/kmftreetkbae
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*تحت السرير ـ دار كيان 2014
*كاتبة مصرية