بهذا العدد، أغسطس 2014، يبدأ عهد جديد من عمر «الهلال».
«عهد» بمعنى مرحلة زمنية جديدة، و«عهد» بمعنى القسم والالتزام أمام قارئ منح «الهلال» ثقته، طوال 122 عاما، تغيرت فيها أنظمة، وزالت عروش، وبقيت «الهلال» عابرة للأزمنة والأجيال، قادرة على الاشتباك مع العصر، والتحاور مع الجديد في الفنون والعلوم والآداب، فصارت بيتا رمزيا للمثقف والقارئ العربي، معنى حاضرا متجددا أكثر منها ماضيا لا يليق به إلا الحنين.
«عهد» بأن تحتفظ «الهلال» بشبابها وتستعيد روحها، تلك الروح التي منحتها القدرة على أن تصير ديوانا للثقافة العربية، كما أراد لها مؤسسها العظيم جرجي زيدان، وكما اجتهد من بعده في إضافة الجديد. «الهلال» مجاز ولغة أكبر من مجلة، واللغة تتجدد بالانفتاح على العالم، والتفاعل مع الآخر، والتواصل مع الجديد بأدواته ومفرداته. وتتآكل اللغة وتشيخ إذا اكتفت بذاتها وعجزت عن الابتكار، وصارت خطواتها أقل سرعة واستجابة لخطاب العصر وابتكاراته.
«عهد» بأن تكون «الهلال» أمينة مع القارئ، ومع جيل لم يولد بعد، سيلجأ إلى أعدادها، ولو بعد مئة عام، للبحث عن تجليات المشهد الثقافي الحالي، عن «صورة» العالم العربي والعالم الآن.. كيف يفكر ويبدع فنونه وحياته المعيشة؟ وماذا يكتب؟ وبماذا يحلم؟ وبأي أسلحة يتحارب أو يقاوم؟ وما أسئلته وكيف يطرحها؟ وما إجاباته عن أسئلة أكبر من قدرته على التصور؟ لن تكون «الهلال» مجرد وعاء أو إضبارة تضم هذا الشتات، ولكنها ستكون عينا واعية في إيجازها وانتقائها وانتقادها.. إيجاز يعتمد المتعة ويجافي ثقل الظل في المواد المنشورة، وانتقاء كل ما له دلالة عن ظاهرة، وانتقاد لا يكتفي برصد الظواهر والمواقف، بل يتخذ موقفا نقديا عقلانيا منها.
«عهد» بتخلي «الهلال» عن الشوفينية، ونبذ أي استعلاء حقيقي أو زائف، لا يضيف تسجيله هنا والآن إلا مزيدا من الملل والمن والتذكير بالدور الثقافي المصري. ندرك صيرورة الزمن، ونسعى إلى الحفاوة بالتنوع الثقافي في العالم العربي، وإلقاء الضوء على ما يحفل به البلد الواحد من طبقات ثقافية مختلفة، تسهم في الثراء الإنساني والإبداعي، تضيف إليه ولا تنتقص منه. تفتح «الهلال» صدرها للمثقفين العرب، في العالم العربي والمنافي التي أنقذتهم من دكتاتوريات لا تحتمل الاختلاف. نحتفي بأي «كتابة»، بلا ضفاف، ما لم تدع إلى تطبيع مع العدو الصهيوني، أو تحض على عنف أو كراهية أو تمييز، طائفيا كان أم دينيا أم مذهبيا. ونتجنب الخوض في العجين السياسي، نتفادى مناطق من ضباب كثيف، يدعو غير أولي العلم للاجتراء على الإفتاء بالتكفير الوطني والديني والثوري والإنساني.
«عهد» بأن تكون «الهلال» صوت المبدعين في الأرض، من أي جيل أو انتماء، ما تمتعت «الكتابة» بجمال يدل على نفسه، ويتجاوز اسم الكاتب وزمنه، إلى قارئ في زمن لاحق.
«عهد» باقتسام هذه «الأمانة»، التي لا يصح أن تكون ساحة للصوت الواحد، والبلد الواحد. وكان حسن ظني بالطاقات الإبداعية والفكرية الخلاقة في محله، وترجم ذلك في حماسة واستجابات سريعة، تجدون بشائرها في العدد الأول، وآمل أن يكون الإنجاز في مستوى الطموح.
وبعد،
أبدأ تجربة «الهلال» غير مثقل بأي فاتورة، أو عبء نفسي. لست مدينا لأحد بشيء، إلا للقارئ، هو سيد يأمر في أي وقت، ويطلب كشف حساب، وله أيضا أن يفتش في الدفاتر القديمة، والكتابة فضيحة لا يسهل سترها، تشهد لصاحبها أو عليه، فالنشر لا يبلى، والذنب في الكتابة لا ينسى.
وحين أهدأ قليلا، وأنظر إلى الماضي، أشعر بشيء من الرضا، وأحمل أوراقي بيميني، وقد انتصرت فيها دائما لقيمة «الكتابة»، وكتبت عن فقراء لا يملكون إلا ثراء مواهبهم، أولئك الذين استجابوا إلى «نداهة» الإبداع، وفتنتهم الكلمة، وتركوا سيرة عطرة.. عبد الحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبد الله، ومالك حداد، ومحمد روميش، ونجيب سرور، وخيري عبد الجواد، وغيرهم.
لا أخجل من مقال كتبته، ولا أضطر إلى أن أطويه طي السجل.