الفردوس المفقود في “وجوه سكندرية”

الفردوس المفقود في "وجوه سكندرية"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د.عزة مازن

تتغير ملامح المدن ويحفر الزمن بصماته عليها مثلما يحفرها على وجوه البشر. بيد أن المدن لا تتبدل ملامحها بفعل الزمن وحده إنما تغيرها أفكار البشر وثقافاتهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية. في كتابه "وجوه سكندرية" يحاول الأديب علاء خالد أن يقبض على ملامح مدينة الاسكندرية، محبوبته ومسقط رأسه، كما عرفها صبيا وشاباً، بعد أن رأى أمواج التغيير العاتية تنال من جمالها وطلاوة روحها. أراد الكاتب أن يكون كتابه ذاكرة بديلة لمدينته التي عشق ناسها ودروبها، فراح يبحث في حناياها عن فردوسه المفقود. الكتاب رواية رائعة فصولها تنويعات على لحن عشق للمكان والتاريخ والناس.

على مدى 289 صفحة من القطع المتوسط، يغوص الكاتب في أعماق التاريخ أحياناً، ويستنطق ذاكرة الأماكن أحياناً، وينصت لحكايات البشر أحياناً، في محاولة لأن يجد “صيغة بين الذاكرة والنسيان”، فهو على يقين أنه لابد أن “تُضاء الذاكرة القديمة بذاكرة جديدة” تجد طريقها بين الأجيال القادمة. تأتي فصول الكتاب الثمانية والثلاثين مسكونة بروح الشعر وكثافة لغته وكأنها مقاطع في قصيدة نثرية طويلة في عشق المكان، تغوص في أعماقه وتستنطق روحه.

 في فصل بعنوان “الفردوس المفقود” يبرر الكاتب تلك النظرة الثقافية إلى المدينة المشحونة بالأسى والحزن على الفردوس المفقود، فيُرجع ذلك إلى صورتها الفردوسية التي رسمها الأدب للمدينة في عصور مختلفة:

فقد ظلت اسكندرية العصر الذهبي في العشرينيات، والثلاثينيات، والأربعينيات هي الفردوس المفقود الذي مازلنا نبحث عنه حتى الآن. داريل، فورستر، كفافيس، أونجارتي، وإدوارد الخراط، جميعهم وسعوا في فضاء هذا الفردوس، حتى ابتلعنا. لم تتطور المدينة داخل الأدب، ولم يتغير مفهومها…. أصبح اسم الإسكندرية دليلا على ثقافة كونية نادرة ضاعت. من هنا نشأت مفارقة أو مأساة من سطوة هذا الفردوس المفقود داخل الأدب وامتداده في الذاكرة الجماعية حتى لما بعد العصر الذهبي، ومن حضور ثقيل لإسكندرية الواقع. استمر الخيال، واستمر أيضا الواقع الحزين في الجريان! هذا التناقض الحاد بينهما جعلنا، نحن المصريين، ننظر إلى الإسكندرية الحالية بعين أخرى؛ عين عصرها الذهبي، فيزداد الإحساس بالفقد.”

  وفي ثنايا السرد يقع الكاتب نفسه أسيرا لذلك البحث عن الفردوس المفقود، سواء الذي رسمه الأدباء للمدينة أو عاشه الكاتب في صباه وشبابه. يبحث عنه في بيت كفافيس وفي المقاهي والشوارع التي فقدت ملامحها. في بيت شاعر الإسكندرية “كفافيس”، وبينما يصعد الكاتب درجات السلم في ذلك المبنى القديم يشعر بوقع خطواته “تتماس، وتتقاطع أحياناً مع وقع خطوات قديمة لهذا الشاعر. ويشعر الكاتب بروح كفافيس “تحلق على مطعم إليت الذي كان قريبا من بيته”، رغم أنه لا يعرف ما إذا كان كفافيس قد جلس في هذا المطعم، وكتب فيه أم لا. فربما مات قبل افتتاح المطعم. ولكن، كما يقول الكاتب، “ليس مكان الحدث هو المهم، بل الخيال. الخيال هو الذي يضفي الحقيقة والمصداقية على أي مكان، ويعيد صياغة الماضي.”

   وبنفس الحنين والرغبة في إعادة صياغة الماضي يطوف الكاتب في إسكندرية نجيب محفوظ في روايته “ميرامار”، التي تدور أحداثها في إسكندرية الستينيات “. يدور الحدث الروائي على خلفية لحظة التحول في تاريخ المدينة، وما تمثله الثورة من رفض للتنوع في الجنسيات الذي كانت تمثله المدينة قبل الثورة، لما له من علاقة بالاستعمار، الذي جاءت الثورة لتقضي عليه. تتناقض هذه الصورة مع الإسكندرية التي صورها داريل في رباعيته، ولم ير فيها سوى إسكندرية الأجانب وحدهم، حيث تدور أحداث الرواية بين الحربين العالميتين.

وبين محطة الرمل وبحري يلمس الكاتب القدرة المدهشة للمدينة على استيعاب المتناقضات. في محطة الرمل حضارة الغرب وفي بحري دفء الشرق وحميمته: “وأنا أسير في محطة الرمل أشعر بتوهة لذيذة، لا بوصلة لها، تتوسع حدقة النفس، يتشابك بداخلها التاريخ بالثقافة، تمدد مبرح كأنك تريد أن تعانق روحا تفوق قدرتك على التحمل…. أما في بحري فالذات لا تتمدد بل تنكمش، تكمن بلا احتفالات ولا صخب، نحو اكتشاف مكان حميم ضائع؛ فالأصالة التي يمثلها حي بحري، والتغريب الذي يمثله حي محطة الرمل، كلاهما أصبح جزءا من الماضي.”

لا يبحث الكاتب عن فردوسه المفقود في الأدب وحده ولا في الأماكن وحدها، ولكن يبحث عنه أيضاً في وجوه البشر. يراه في وجه عايدة، بائعة الورد، التي كانت لها “القدرة على أن تظهر في عدة أماكن مختلفة، وربما في التوقيت نفسه… تمر بورودها الذابلة بجوار المقهى الذي اعتدنا الالتقاء فيه نحن مجموعة الأصدقاء، ثم أراها مرة أخرى عند إشارة المرور التي تبعد كيلو مترات عن المقهى….” يدور الزمن دورته وتتبدل الظروف والأحوال ولا ينسى الكاتب بائعة الورد، التي ارتبط وجودها بأحد ربوع فردوسه المفقود، ويتذكرها بمجرد رؤيتها: “الشئ اللافت هو أنها عندما تغيب عن عيني لزمن، وأتذكرها، عندها أراها أمامي، مهما كان المكان الذي أكون موجودا به، كأنها تقرأ أفكار أصدقائها، وكأن المدينة بكاملها حلم طويل تحلم به وتتنقل فيه بورودها الذابلة.”

يربط الكاتب بين سمات البشر والمدينة، لا سيما من كانت بهم مسحة خاصة من الجنون، مثل “عم عربي”: لا يمكن اعتبار عم عربي من الشحاذين العاديين، بالرغم من أن ملابسه  وهيئته توحيان بهذا. كان نوعا عفيفا من الشحاذين، الذين يختلط تسولهم برغبة الفرار من أسر الحياة. رويدا رويدا، من طول الفرار، يشعر بأنه أصبح طليقا، لا يتحمل عقله هذا القدر المجاني من الحرية، فتبدأ بعض الضلالات في احتلال هذه المساحة….”  يرى الكاتب علاقة خاصة بين الجنون الذي يمثله “عم عربي” وبين “الإسكندرية كمدينة تؤكد على فكرة الفردانية، سواء في الحياة العامة لساكنيها، أو في حياة تلك الضفة الأخرى من العقل…”

الكتاب رحلة رائعة داخل الخريطة النفسية لربوع المكان ونفوس البشر، بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال، يجتمع فيها كثافة السرد الروائي وعمق الخيال الشعري، مع قدرة رائعة على بعث الحياة في الأماكن وخيوط الذكريات.

عودة إلى الملف

  

مقالات من نفس القسم