فى تلك الأوقات الصعبة غاب الاهتمام النقدى، ولم يعد له وجود، إلا الوجود المدرسى أو الأكاديمى، والذى كان مفرغا من أى أفكار عميقة يرى من خلالها هذه التحولات التى مر بها المجتمع، ومسار الانقلابات فى أفكاره، والاستقطاب الذى حدث فى طبقاته، مما أدى لاختفاء وضمور الطبقة المتوسطة وظهور طبقات أخرى لم تعد الثقافة إحدى أولوياتها. وبالتالى فقد الرابط بين هذه الشعريات الجديدة وعلاقتها بهذا المجتمع المتحول، أو بخصوصية الشعر فى تلك اللحظة الحاسمة. كان المجتمع كله فاقدا لرشده، وجاءت حرب الخليج لتزيد من هذا التشتت، وأصبح الوعى العلمى الدءوب فى أغلب مجالات الأدب والفن، أملا بعيد المنال. لم تعد هناك رغبة لدى الكافة لفكرة التأصيل لأي ظاهرة شعرية أو أدبية أو فكرية بشكل عام. أصبح المجتمع مواجها بأسئلة وبسياقات وبتحولات داخلية وخارجية، و”بسيولة”، لم يكن يملك الأدوات على تفسيرها، لسبب بسيط أنه لم يكن مستعدا لمواجهتها؛ لركود النشاط الثقافى والعلمى والبحثى لفترات طويلة، منذ السبعينيات وربما أسبق من هذا، واستنفاد قواه فقط فى مواجهات سياسية، وصلت لدرجة تسييس المجتمع الأدبى بكامله.
منذ دخولي لعالم الكتابة لم أعرف مدلول كلمة “جمهور”، فالمسارات التي تحركت فيها الذات الشعرية، كانت مسارات انتقائية. أصبحت مشروعيتك كشاعر محل شك وغير مؤكدة، ومسورة بالتعصب، لغياب كل هذه الأطراف عنها. كان هذا الآخر غائبا على مستوى الكتابة ومستوى الحياة، فكيف يستعيد الفرد قواه ويتجرأ على الخلق؟ مهما كانت قوة أى فردية، ومهما كانت قوة جنوحها وموهبتها وتعددها الداخلى، فلكى تستمر ولا تتحول إلى أيقونة أو رمز استشهادى، عليها بخلق هذا الآخر، أى كان مكانه أو قوته، أو مرجعيته، وهى التجربة الأصعب لاستمرار الحياة والفردية فى آن. حتى لا تكون الفردية هي علامة انتهاء الحياة.
كان المشهد الأدبي فى بداية التسعينيات ما زالت تسيطر عليه التقاليد السياسية فى نظرته للشعر، للقرب الشديد بين جماعات السياسة والأدب والفن فى القاهرة. حتى على مستوى هذه الجماعات النوعية تم تضمين هذه الكتابات الجديدة داخل التفسير السياسى للأدب. أصبحت “ذات الشاعر”، ومستوياتها الأعمق؛ خارج أى تأويل أو تفسير. لم يوجد “الخطاب الحواري” المتسائل، وإنما خطاب أحادى يسير على قضيبين. بمعنى آخر كان هذا “الآخر” حاضرا بقوة وبمباشرة وواضح التفاصيل، كأن رحلة خلقه مسبقة، ولها شكل واحد، وليست متعددة وشخصية، ولها إحداثيات تشكل ملامح هذا الآخر. الأحادية كانت مشكلة المجتمع، الأحادية حتى فى فكرة التعدد، تماما كأى إيمان ظاهرى، يضمر التعصب والاستبعاد أكثر مما يضمر الحب. كان المجتمع يخب الخطى نحو التعدد والعشوائية و”السيولة” وهو فاقد لأى إيمان بمنجز خاص به، أو واثق حتى بنفسه.
أى “آخر” به مسحة مثالية، لأنه يتعين على مستوى الوعى والحلم والحدس، وكل ما هو غير موجود أو كل ما هو مفقود. حلم يتحول إلى حقيقة، وفى رحلة تحوله تكمن حقيقة أخرى، هى التجربة نفسها، النجاح لهذا الحلم أو الفشل، أو تعديل الحلم نفسه. غياب الأفكار المثالية أو فشلها جعل الأدب والفن ينحو نحو فكرة شخصية أو مثالية شخصية حتى ولو كان مظهرها اللامثالية. وهو ما حدث فى قصيدة النثر، قامت التجربة الشخصية، بكل تناقضاتها، وحلت مكان الآخر المثالى الغائب. هذا الغياب للأفكار المثالية وللحلم بشكل عام، جعل هناك جدلا ناقصا، لا يوجد طرف آخر منظم يتم الجدل معه والحوار لضبط الشكل الأدبى، لذا أصبحت التجربة الشخصية هى المثير الأول، وتم إعلاء شأنها، وهى تجربة مهما كانت لن يتضح نظامها ويتفتح إلا عبر زمن، تنضج فيه رموز هذه التجربة، وتظهر شكلها. لذا كان ظهور تجارب خاصة يأخذ وقتا طويلا حتى تجد كل ذات مفردة هذا “الآخر” الذى تحاوره لتستمر الحياة.
التجارب الشخصية لم تجد أمامها إلا شكل الحكاية، كشكل قديم متجذر فى الأدب، ويحتوى داخله على متعة ونظام وأحلام، وطفولة وذكريات وحكمة وسير، وأخذ هذا الشكل يأخذ مكانه ليعوض غياب أشكال أخرى من الأفكار والمرجعيات كانت تحاور الأدب وتضبط أنواعه وأشكاله.
الجماعات الأدبية أو شلل الأصدقاء كانت إحدى المنارات فى تلك الفترة من التسعينيات، كانت تمنح الفرد الشاعر مظلة، وليست حماية، بها رائحة هذا الآخر الغائب. صادف الحظ وجودى بين مجموعة من الشعراء والفنانين والمهتمين بالأدب حتى الثمالة، وهم الذين منحوا تلك اللحظة غير الفنية وغير الأدبية، التثمين الذي سلبه المجتمع من الفن والأدب. أى لحظة فردية تحتاج لمظلة عامة لكى تستمر. ربما كان لهذه الشلل عيوب أى جيتو ثقافى أو إنسانى أو جغرافى، من التقتير على النفس والغير، وتلك المثالية العنيفة فى أحكامها، أو تلك المحبة التى لا تعرف حدودها بين الذات والآخر. ولكن لم يكن هناك طريق آخر سوى الوحدة والعزلة.
رغم هذا استمررتُ فى كتابة الشعر! وهى الفكرة التى تحتاج منى لتأمل لأن بها شيئا من الحقيقة التى ترتبط بماهية الشعر نفسه، وطريقة نشأته. مع الأجيال الجديدة يعود الشعر لوضعه القديم، قبل أن يكون واحدا من الأنواع الأدبية، وقبل أن تتكون حوله تلك السياقات الأكاديمية والتنظيرية والجماهيرية، ومقولات من قبيل “الشاعر والجمهور”، “المرسل والمتلقى والرسالة”. كلها سياقات ومساءلات نشأت مع عصر الجماهيروانتشار وسائل الاتصال. وربما لها وجاهتها فى مساءلة أي نوع أدبي عن جدارته فى الاستمرار من عدمه. قبل وبجانب هذه السياقات كان للشعر دور وتأثير.
اختياري لقصيدة النثر جاء صدفة، ربما لأنها الأقرب لطبيعتى الخاصة، وللأفكار التى كانت تدور فى مخيلتى فى تلك الفترة من نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. كان عندى تشابك فى الأفكار، يصل لحد التعقيد، تكون بسبب مشهد اجتماعى هو الآخر غاية فى التعقيد، وأول مظاهره هو هذا التهديد العلنى والسافر لطبقة متوسطة، أنا أحد أفرادها، وأحد المتمردين عليها، وكانت تسمى فى الأدبيات الماركسية بالطبقة الوصولية والمتسلقة والمتعفنة.
لم يكن للشعر مكان صافٍ يستقى منه مفرداته وسياقاته، ولم يعد التمرد هو المفتاح السحرى الذى يتجاوز به الفرد أى مأزق اجتماعى، أو فنى، ليعلن عن خصوصيته، فعلى أى شىء بالضبط أتمرد؟ لم يعد هناك إلا الفهم والتفهم والصبر على ما يدور حولك وداخلك. صارت هناك عدة نقاط أو أقطاب تأثرت بهم هذه الذات الشعرية التى أحملها. هذا التعدد فى أقطاب الصراع والحيرة كان يستلزم شكلا أدبيا يتفق معه، شكلا له أقطاب ومحاور وأطراف وجسم سردي، ربما الحكي والحكاية كان هذا الشكل. وربما السيرة الشخصية كانت المرجع الذى يختزن بداخله حكاية حدثت بالفعل وتحتاج أن تظهر. الشكل الحكائى كان الأقرب لتجميع تلك الخيوط المتناثرة وهذا التعقيد الذى كانت تموج به نفسى.
ربما حقق لى الشعر بعض الانتشار النسبى، ولكن الأهم من هذا منحنى الشعر مكانا جديدا للنظر للحياة. لا توجد تقنية أخرى أو نظام آخر للمعرفة الحدسية، حدث بينى وبينه حوار طوال هذه السنوات، سوى هذا البناء الذى يسمى الشعر وأعماقه الداخلية المختزنة به، من أساليب وشعراء وتجارب، ولحظات جنون، وأخلاق، وتمرد، واستسلام، وصوفية، وتفلسف، وغيرها من مكونات أى حياة عريضة.
أغراني الشعر بالبحث عن “حقيقتى” الشخصية. حتى ولو كان هذا المسعى خاطئا، فقد أمضيت جزءا كبيرا من حياتى، وهناك بناء آخر يشغل وجودى. إنه إحدى طرق المعرفة القديمة.
بدأت كتابة الشعر وفى نيتى أن أقول “الحقيقة”، وأن يستوعب هذا البناء الحساس كل ما أفكر به. كانت علاقتى بالشعر مشوبة بهذا المس من الاعتراف. حاولت أن يكون الشعر هو الوسيط الذى يطابق بين داخلى والخارج، على الرغم من طول المسافة بينهما. جرنى قول الحقيقة أن أبحث فى الماضى، فى تلك الأزمنة التى نختزنها فى ذاكرتنا، دون الالتفات لمسافة أخرى بدأت تتضح مع لحظتى الراهنة، كأن الشعر له زمن خاص به. مع الوقت بدأ فهمى للحقيقة يتغير، وبدأت علاقتى تتغير بهذا “الآخر” الذى كنت أعترف أمامه وأكشف له كل علامات ضعفى، وعيوب نفسى. وكما تغير فهمى وإحساسى بالحقيقة، بدأ يتغير شكل وحساسية هذا الآخر الملازم لأى نشيد أو وحدة أو فرح. لم يعد الاعتراف هاماً، فهذا البناء الحساس المسمى الشعر يستوعب ما هو أكبر من الحقيقة، وما هو أكثر من الاعتراف، وما هو أكثر من الموسيقى. ربما فى اللحظة التى نسيت فيها هذا الآخر، بدأت الكتابة تتجاوز مأزق “الحقيقة” والاعتراف والتطهر. أو أن هذا الآخر بدأ يظهر بشكل أكثر خفاءً وحناناً، بدون أن يشعرنى بثقل وجوده أو سلطته.
أي تفاعل محمل برغبة البقاء أو الموت، أو الانتساب لأشياء الحياة الباقية، لهى لحظة شعرية. وأى مأزق للوعى مع الذاكرة، أو مع الحاضر، سيحمل داخله قدرأ كافيا من الشعرية. هذه هى قناعاتى الآن. كذلك أن ينسى الجسم هويته، لأنها مؤكدة، ويبحث كيف تتحول هذه الهوية إلى علاقة بآخرين. فليس هناك معنى لعلامات الهوية ورموزها مهما كانت ثمينة، بدون أن تقوم بمخاطرة الرحلة نحو الآخرين.