“شظايا الجريمة”

"شظايا الجريمة"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فصل من رواية: محمد محمد السنباطي

 

يد القتيل

حين لطم مغاوري زوجته على وجهها خارقًا الهدنة لأنها لم تسمع كلامه وقدمت له البيضَةَ مقليةً وليست مسلوقةً كما يحب، وغادر البيت في غبشة الفجر مزهوًّا منتصرًا يغصُّ بالرجولة، لم يتخيل أبدًا أنَّ قتيلا مدفونًا تحتَ كوم السباخ سيمد له يده الميتة ليعاتبَه على فعلته.

تتقافزُ الضفادعُ حواليه كأنما تسابقه على الطريق الترابي المبلل بندى الصباح، لكنه لن يمسها بسوء، على رأسه طاقية كانت بيضاء، وبظهر يده مسح تحت أنفه. في البدء ظهرت ضفدعٌ كبيرةٌ، سمراءُ داكنةُ الخضرة، قفزت أمامَه قفزةً هائلةً قبلَ أنْ تخمدَ حركتها. تمنى لو حدفها بطوبة. لعلها الآن تلتقط أنفاسها قبل معاودة القفز. ماكراتٌ هن الضفادع!. مِن على ظهر الحمار يتابع دائمًا محاولاتها التخفي عن ناظريه. إنه يفقس حركاتها! ويرى أخرياتٍ كثيراتٍ. قفزنَ ثلاثَ قفزاتٍ أو أربعًا قبل أن يحودن هابطاتٍ إلى مجرى الماء.

غمغم: حسنًا فعلتُ بعدم إيذائهن!

لحظاتٍ واكتشفَ أن الضفدع الكبيرة ما تزال سادرةً تنط على الطريق أمامَه وتسبق الحمار. يا عبيطة، ألا تسمعين زميلاتك يتعالى نقيقُهن الزائط!. لقد تركنكِ وانحدرنَ وأنتِ لا تنظرين وراءكِ. لكي تكوني البريمو يجب أن تطاعي وإلا ستضيعين. أخيرًا لمح الثلاثَ نخلاتٍ، متحداتٍ من أسفلَ متقارباتٍ في السماء. اقتربنا. ثم الجميزةَ العجوزَ التي تحاك حولها الأساطيرُ. نسي الضفادعَ. ربت على رقبة الحمار مغمغمًا: وصلنا يا أبجر!.

ترجل من على الظهر الهزيل. نفضَ يدًا بيدٍ وسحبَهُ خطواتٍ. طأطأ ليمرِّرَ طرفَ الحبل في حلقة المَربط ويصنعَ العقدة. اعتدلَ واقفًا. همّ إلى البقرة والجاموسة فأودعهما مكانهما المعتاد خلف جذع توتة ضخم، مقطوع ونائم. أتي بغمر برسيم. انتبه لشيء. حدف طرفه إلى قدام قدميه. لاحظ كأنما طرأت على المكان تغييرات. بل طرأت تغييراتٌ بالفعل. ليس كما تركه عشية أمس. ليس الندى هو ما يبلله فقط. لم يكترث في البداية. ربما لأن الشمسَ الناهضةَ كانت في عينيه. شعاعُها واهنٌ كطفل في الثالثة، لكنَّ العينين عليلتان. استدار ليرمقَ الكومةَ ويتفحصها بعنايةٍ أكثر. هو حتى الآن لم يتوجس، ثم بدأ يلاحظ أن جسرَ الجنابية مرشوشٌ بماءٍ ثقيل، بطول مترين تقريبًا!. مياهٌ كثيرة تمَّ دلقُها هنا. تساءل متعجبًا متى حدث ذلك ومن فعله وما الهدف؟. لاحظ أن الأرضَ في كومة السباخ منبعجةٌ أكثرَ من اللازم. رفعَ حاجبيه. علا نهيقُ الحمار الجائع. حدفَ إليه حزمةَ برسيم وهو مازال يبرطم بالشتائم. خطا إلى الفأس فالتقطها بتكاسل. سيهمُّ بتسوية المكان وإنْ كان هذا غيرَ هام ولا مستعجل. يريد في الحقيقة أن يلين ظهره الذي جمدته الرطوبة. ضرب أولَ ضربةٍ بهدوء ودون عنف فانغرس سلاحها في جسد التربة دون أدنى مقاومة. تخشب في وقفته رافعًا حاجبيه مفنجلا عينيه كأنما رأى الموت. يخيل إليه أنه لمح يد إنسان، لكنها تلاشت تحت انهيارات السباخ. لو كان حدف الضفدع أو أصابها بسوء لقال إنها السبب. لم يرفع فأسه إلى أعلى مرة ثانية وإنما نزلت بها يده برفق وتوجسٍ فوق المكان المنبعج كأنما يجسُّ دملا كبيرًا. ضغط بها قليلا فتأكد أن الكومة لينة غير صلبة. أكد لنفسه أن فيها قتيلاً سائحًا في دمه. لكنه طلب من الهموم أن تنتظر قليلا.

نزع البرذعة من على الظهر الهزيل وافترشها. فك الصرة وفردَها عن رغيفٍين طريين هرسَ فيهما قطعة جبن قديمة. بدأ يقضم ويفكر. عيناه دون إرادة منه تحسستا الأرض المرشوشة فأيقن أن سر دلق الماء هو إزالة آثار الدماء من على طريق الجسر ولا شيء غير ذلك.

مازال يلوك الرغيف. لا يوجد تفسير آخر. توقفت اللقمة في زوره فرفع القلة واستقبل خيط الماء بفمه عن بعد.

المصائب تدق بابه فهل يفتح لها؟!.

عاد ليمسك الفأس فشعرَ بيده تتراخى. أسندها مكانها وحوقل. دار بعينيه ليتأكد أنه وحدَه في الناحية. سحابةٌ باهتةٌ غطت وجهَ الشمس لحظات. هبت ريحٌ باردةٌ حركت البرسيمَ الأخضر النديان تحت الضوء اللين، لكنها لم تطفئ حريقًا بدأ يشب داخله. رغمًا عنه ذهبت عيناه إلى المقابر المحدوفة إلى يمين الرؤية. أحقا رأى يد إنسان مقتول؟ وهل ذلك الشيء الذي لمع لحظة ثم خفت متلاشيا في الروث خاتم ذهبي؟!.

أمسِ عندما سألته امرأته أن يترك نقودًا لاستبدال أنبوبة البوتاجاز، صرخ في وجهها: ألا تتقين الله؟ من أين وأنتِ تعرفين البيرَ وغطاه؟

فهل يكون هذا رزقًا ساقه الله إليه ليصالح فواكه؟!. إنه لم يمس الضفادع بسوء. طوح بصره تجاه العشة المنعزلة على رأس الغيط الجواني وقال: أجلسُ فيها مع نفسي أفكر في الذي سأفعله. سأجتر أفكاري كبقرة. لا أحد معي يدلني ويرشدني وأنا قليل الحيلة.

قبل أن يغادر مكانه قام بإخفاء ما يحمله الأصبعُ من نعمة أو نقمة حتى لا يلمحه أحدُ المارة وتبقى مصيبة. لماذا يقصد عشة الغير؟ سيستكين هنا تحت الجميزة.

المقابر بيضاءُ ورمادية تنام في هدوء لئيم تحت أشجار قصيرةٍ مستسلمة، بينما راحت الثلاثُ نخلاتٍ يرقبن المشهد في صمت مراوغ، أما الجميزة ففي الليل فقط ترتدي ثوب الأساطير وتفتح شاشات الرعب. لم يكد يجلس لحظاتٍ ويدرب يده على الإمساك السريع باليد المستكينة ليخلص الخاتم في لمح البصر من الأصبع المتخشب، حتى هبَّ مذعورًا. توجه إلى العشة ونعيق الغربان يلاحقه. هل سيستبدل بالأنبوبة الفارغة أخرى مملوءة، ويشتري للولد الذي بدأ أصبعه يبص من حنك حذائه حذاءً جديدًا؟.

العشة على مسافة مئة متر من هنا، وقد تزيد قليلاً. في منتصف المسافة توقف لأنه لمح على الأرض زجاجات مياه غازية فارغة. ليست زجاجاتٍ وإنما علب صفيح لها فتحة صغيرة في سقفها.

تراءت له أشباح تسأله عن قصة هذه العُلب وعليها بصماته إن أمسك بها. المصايب تدق بابه بعنف. والله العظيم ما لي دعوة يا باشا. أنا لقيتهم مرميين فلمستهم. فكر أن يقذف بالعلب إلى بطن الترعة، لكنه عاد وتراجع؛ فالعدالة ربما تحتاج لمثل هذه الأشياء لإثبات شيء. ضحك من نفسه: لو ألقيتها إلى الماء ستطفو وتسافر!

بصق وهو يدعو على المتوحشين الذين طفحوها. لم يحصب الضفادع ولو بحصوة صغيرة. عاد إلى المربط ودس العلب في كوم البرسيم كي لا تقع عليها عين إلا بإذنه، أمسكها واعيًا بطرف جلبابه، التليفزيون يعلمنا الكُفت!. رأى بعد ذلك أن يقصد العشة. من المؤكد الآن أن فواكه حسبنت وربنا استجاب لدعاها!.لام نفسه لأنه لطمها بالكف على وجهها.

مئات الأكف الغليظة تتأهب لتسقط على صدغه ولا يجرؤ أن يرفع يده ليحتمي!. كان قد عزم على ألا يصفعها على الوجه منذ أسقط لها إحدى أسنانها الصغيرة في العام الفائت مما أحدث فجوة في ابتسامتها. كانت تبكي وتقول له: إلا الوشِ! إلا الوِش!.. فصار بعد ذلك كلما تضايق منها يزغدها بالبونية في كتفها، أو يرفع في وجهها فردة البلغة مهددًا، وهذا الصباح عندما طلب منها أن تسلق البيضة أحضرتها إليه مقلية متوردة الوجه في الطاسة السوداء، وإذ وبخها قالت ووجهها مقلوب: سأسلق لك غيرها!.

هوى بكفه على محياها خارقًا الهدنة وهو يصرخ: كان من الأول!!.

اكتفى بالرغيفين الذين أخرجتهما له من تحت خصلات البرسيم ليظلا طريين. دس يده في البلاص واستخلص قطعة الجبن ثم مسح يده في ملاءة السرير وسط تأففها مما يفعل.

والله العظيم يا بيه، وحق جلال الله، ما أعرف حتى الآن ما تحت كوم السباخ، وهل حقا يرقد قتيل؟! قالت: ربنا ينتقم منك!!.. يا عبيطة استغفري! إذا انتقم الله مني ودخلتُ السجن- لا سمح الله- ستصيعين أنتِ والأولاد!. رأى ابنه الصغير على ذراعها، والأكبر منه يمسك ذيل جلبابها الأسود، وتتحدر دمعتان من عينيها وهي تطلب منه من خلف الأسلاك أن يشد حيله!

طمأن نفسه: “والله لا أهون عليها!”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي ومترجم مصري

خاص الكتابة

 

 

 

مقالات من نفس القسم