خلود الفلاح
أحمد الفيتوري من مواليد بنغازي عام 1955م ، عمل في الصحافة وعلى الأخص الثقافية في فترة السبعينات حيث اشرف على الصفحة الثقافية الأسبوعية بجريدة الفجر الجديد، عمل سكرتير تحرير صحيفة الأسبوع الثقافي وهي أول صحيفة ثقافية أسبوعية عربية مختصة صدرت أسبوعيا بين عامي 1971 – 1979 م، أسس في شهر مايو_2011 ، جريدة” ميادين” الأسبوعية المستقلة. والتي يرأس تحريرها حتى الآن.
في كتابه” سيرة بنغازي” كتب سيرة مدينته التي شكلت البدايات مع الكتابة حيث كانت محطته الأولى في منطقته “الصابري” والتي تغنت بها الأغاني الشعبية بــ “الصابر يعرجون الفل”
وما تبرزه هذه السيرة أنها تحاول أن تكون حية متفردة، مبنية علي سرد نثري لذاكرة مسهبة في الحكي، في الكتاب هناك سيرة لشخصيات بنغازية معاصرة، صدر له: قصيدة الجنود، جدل القيد والورد أو ستون الشريف، سريب، بيض النساء، قصيدة حب متأبية.
وبمناسبة صدور الطبعة الثانية من كتابه”سيرة بنغازي” عن دار ميريت كان لنا هذا الحوار:
قناع السيرة
ـ من يقرأ كتابك “سيرة بني غازي” يصاب بحالة نوستولوجيا… يقول الكاتب أحمد الفيتوري: لا اتفق معكِ من حيث أنها نوستولوجيا، ليست حنينا عاطفيا مشبوبا لكنها كما كل البشر مشحونة بما يدعوه نيتشه بالعود الأبدي،أو الفردوس المفقود في كل ميثالوجيا، فالبشر لا يملكون إلا ما مضى وتسرب من أياديهم وطبع النفوس، لكن اللحظة غائمة، والمستقبل لا وجود له.
في “سيرة بني غازي” البنية السردية كما خريطة كل ذاكرة مشوبة بالعتمة وغياب السياق المنطقي المحكم، فالمكان يبرر نفسه وهو الراوي والمروي، السيرة هنا قناع طوطمي يؤدي مهمة مركزية بأن كل سرد هو سيرة فكل سيرة سرد، المكان كائن حي وبهذا هو سرد لسيرة متعينة في مدينة هي بشر وأفعال وحكايا، وما يبان كشظايا هو كينونة كل تجمع بشري، التشظي هنا في التمظهر وليس بالقوى، وما يظهر كحنين هو كشف على أن كل ما سيكون كائن فيما كان،ليس باعتباره ماضي ولكن باعتبار أن الحياة تتجدد ولا تخلق من فراغ.
ـ قد يظن القارئ عندما يبدأ في قراءة الكتاب انك تكتب سيرة للمدينة ولكن بعد ذلك يكتشف انك تكتب سيرتنا نحن، سكان هذه المدينة… عن هذه المسألة يقول الكاتب أحمد الفيتوري: لن نذهب بعيدا لو أعدنا قراءة ما كتبت قبل هذه الجملة نجد الجواب، بل أن كل مدن العالم هي سيرة مكونيها، العلماء والمهندسون والبحاث… الخ نجد في تكوين المدن سيرهم وكل المكون البشري يكون بسيرته سيرة هذه المدن، حتى أن ثمة من يمر كعابر سبيل يترك بصماته، في “سيرة بني غازي” رصدت كثر من أولئك العابرين، مثلا رومل ومونتجمري شكلا روح بنغازي وهما في حالة عبور المحارب وهكذا.
المدينة هي سيرتنا أكثر مما هي القرى والبوادي والصحارى،المدينة المستقر وفي كل مستقر نحن كحقيقة مميتة لا كأطلال.
وحول مدينة بنغازي التي تسكنه قال: بنغازي مدينتي ومسقط رأسي، قدري،هل من أحد يحب قدره،بنا توق سرمدي لقدر نختاره، هل من أحد اختار قدره؟، في المفارقة تكمن المسألة: نحن لا نراجع الأكسجين الذي نتنفس ولا ثاني أكسيد الكربون أي أن ما يلزم يلزم،لا أستطيع أن أقلع بنغازي من أن تسكنني حتى لو ذهبت بعيدا، أنا الآن أسكن بنغازي، قد أغير مسكني، قد أسكن المريخ لكن ما حدث حدث حتى وإن تمكن منى النسيان. في الجغرافيا بنغازي مدينة صغيرة، في التاريخ تطفو وتغرق، لكن حين تحين ساعتها تبدو كما لو كانت مدينة المدن،هي كما الجزيرة تطلع في المحيط وتختفي، لكن سعيد من طلعت له وهو في الرمق الأخير.
نهر الليثي والمنارة
الفيتوري بهذا يكتب التاريخ السري لمنارة خريبيش ونهر الليثي وميدان البلدية، فكان رده على ذلك: السرد كتابة للسر السر ما يعرفه كل أحد ولا يعرفه احد، في سيدي خربيش منارة وفي الليثي نهر النسيان الإغريقي وفي الميدان البلدية هل هذه أسرار؟ أليس الجميع يعلم هذا العلم؟، في السرد نميط اللثام عما نعلم لنكتشف غوره كما في البئر نبع، في “سيرة بني غازي” نعيد تشكيل هذه العلامات فنتبنها كما لم نتبين. نحن قد نعرف من المعلومات حول شيء ما أكثر مما يجيء في هذه السردية، لكن كما أن نهر النسيان أسطورة إغريقية فإن منارة خربيش في “سيرة بني غازي” تشي بالمدينة وميدان البلدية سرتها،هل من أحد كان يعلم ذلك قبل؟.
ـ هناك من يقول بان الغرباء هم أكثر صدقاً في الكتابة عن المدن التي سكنتهم.. فيقول الفيتوري: الغرباء يكونون عادة من يسكنون أوطانهم،المتصوفة مثلا، المناضلون والباحثون عن الحقيقة،المبدعون من يجنحون عن السياق،هؤلاء الغرباء من يعشقون حد المنتهى يرصدون النبض، لهذا المدن الحقة كما المرأة العصية لا تمنح نفسها إلا للشقي، صاحب الوعي الشقي كما اصطلاح “هيجل”، المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه أو كما قال ابن عربي.
لعبة الأنا
ـ في رواياته “سريب” و”بيض النساء” سرد سيروي..وبسؤالي هل الذاتية في العمل الأدبي تعتبر نرجسية مفرطة أم تجربة إنسانية؟ قال الروائي أحمد الفيتوري: كل كتابة سردية أو شعرية كتابة سيروية بمعنى ما، لأن كل إبداع ذاتي ولا موضوعي، وأي إبداع هو شعر بمعنى ما كما أنه سرد بنفس المعنى،هايدجر يقول اللغة سر الوجود وفي هذا السر تكمن الشعرية. حينما كتبت رواية “سريب” كانت الطفولة طفولتي وطفولتكِ طفولتنا ساحة اللعبة السردية وكنت اغترف من بئرها. هاءك سرا ذكرت في “سريب” اسم صديق لي بالكامل حين قرأ “سريب” جاءني مسرورا لأنني ذكرت أحداثا لم تغب عن ذاكرته، وأطنب في الحديث عن أحداث من الرواية كان قد عاشها ومدح ذاكرتي، في الحقيقة وبالتوكيد لم تكن لما ذكره في الرواية صلة به، وكنت استعرتها من عمل روائي متأكد انه لم يطلع عليه، وأن ما حاكه السرد هو من سياق الرواية وليس له وشيجة البتة بحياته، لكنها النرجسية التي تعني مما تعني أننا نكون حيث نرغب ونريد، وأن السرد يوهمنا بأننا نحن في المرآة، مرآة النبع التي نبع منها نرجس أو الأنا. في رواية “بيض النساء ” أكتب عن امرأة فصل كامل من الرواية، عالم النفس يونغ تلميذ فرويد يتكلم بإسهاب عن الأنثى في الذكر والعكس. وبالتالي النرجسية المفرطة هي الحد اللازم لاجترح اللغة كي تكون الأنا لأن أي عمل إبداعي الأنا جوهره والتجربة الإنسانية مسبره.
روح المكان الأول
_ منطقة “الصابري” والتي أطلق عليها في بعض الأغنيات اسم عرجون الفل، دكاكين حميد، مخبز الوالد، الكتب. إلى أي مدى يبقى المكان الأول في حياة الكاتب ذا تأثير في كتاباته السابقة واللاحقة؟ يرد الفيتوري:المكان هو الزمان حتى في التجريد يندس المكان عن الرائي، اللغة المكتوبة تجريد لكنها لصيقة بمكان ما في ذاكرة ما، من جهتي كنت أريد أن أكتب ما أعرف وممكن كي أعرف ما لا أعرف أن أعرف كينونتي. الصابري منطقتي وحي دكاكين حميد ومدينتي بنغازي صورة العالم ومساري لرؤية العالم، كما الأعمى الذي تمكن ذات مرة من الرؤية فرأى فأرا، ثم لما عاوده فقدان البصر كان كلما ذكر احد شيئا فيلا مثلا تسأل أين من ذلك الفأر،المكان هو ذلكم الفأر. نحن نسوح العالم بأجسادنا نعم ولكن قبل بالذاكرة الأولى، بالصابري ودكاكين حميد وبنغازي، فالكاتب ذاكرة حتى وهو يبدع رؤية للمستقبل. والسارد في أعمالي مهجوس بفسيفساء المكان التي كأنما هي تجاويف الذاكرة وخلائط النفس وروح الذاكرة، كما معماري اعيد نسج المكان فمعمار كل مسروداتي من معمار المكان، وكل مكان في هذه السرديات هو روح حية، أنا ابن المدينة حيث المعمار هو ما يشكل الروح.
وعن الجدة منبع الحكاية… كيف يصور الفيتوري علاقته بها: جدتي في رواية “سريب” استعارة وليست جدتي، فالطفولة في هاتيك السردية هي حجر الحكاية وردنها بل روحها، كل طفل هو ابن جدة أي الحفيد لأن الأب في سريب كما الأم وسيط، هل أذكرك بمرثية المتنبي لجدته أو بتراث الشعوب البدائية ما حملته الجدات أو بالأسطورة مكمن حكمة الشعوب جملة وتفصيلا، جدتي هي أسطورتي وأنا أسطورة هذه الجدة، وكل الآداب هي أساطير الشعوب،هي المفرد بصيغة الجمع فالجدة هي أصل كل سارد.
خاص الكتابة