آخر معارك اللغة

آخر معارك اللغة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سيد الوكيل

بعد أن شاهد جارى ظاهرة الدعاة الأطفال على الفضائيات قرر أن يكون طفله داعية ، الرجل جن طبعا ، دعاة أطفال يعظون الناس ويرتدون جلابيب بيضاء وطواقى وملامح بريئة لكنهم صاروا نجوما .

الطفل دون الخامسة ، وجارى جعل الأمر قضيته ، لكن القضية الحقيقية بدأت مع الدروس الأولى لتعليمه اللغة من نحو وصرف وغير ذلك ، طبق جارى قاعدة بسيطة ، أن يتكلم طوال الوقت هو وزوجته بالفصحى ، فحرم العامية على بيته ، ومع الوقت راح الطفل يتكلم لغة لطيفة تثير ضحك الكبار فيداعبونه ويباركون ذكاءه ،يشيرون إلى أبيه ويسالون بسذاجة وفرح مين ده ؟

يرد الولد : هذا أبى

ومين دى

هذه أمى

لغتة تثير استنكار الصغار ودهشتهم فيتجنبونه ويسألون آبائهم .. هو بيتكلم كده ليه ؟ شيئاً فشيئاً بدأ الطفل يعيش عالم الكبار ويقلدهم ويؤثر الجلوس معهم عن صحبة أقرانه الصغار ، حسابات المكسب والخسارة هنا قد تهم علماء النفس ، فهم وحدهم يقررون .. إذا كان الطفل الذى يعيش أكبر من سنه معذب أم سعيد ؟ أما أنا فرحت أرقب الموضوع باعتباره معركة مثيرة مع اللغة ،( شغل مثقفين بقى ) فاستدعت فى ذهنى أسئلة قديمة عن لغتنا الجميلة مثل : هل هناك خصومة حقيقية بين الفصحى والعامية ؟ هل تهدد العامية الفصحى ـ فعلاً ـ وتعرضها للخطر ؟ هل يمكن للفصحى أن تكون لغة خطاب يومى ؟ وهل كانت كذلك يوماً ؟ أم أنها ظلت ـ دائماً ـ لغة أدبية رفيعة تنأى بنفسها عن لغة الخطاب اليومى للناس ؟

قلت لنفسى كما يقول علماء اللغة ، إذا كنا نعيش فى اللغة وباللغة ، فهذا الطفل يعيش فى عالم آخر غير عالمنا .

لكن .. لماذا أحاطت الفصحى نفسها بهذا الكم الضخم من اللهجات وحصرت نفسها فى التدوين فقط / الكتابة ؟ هل يؤثر ذلك فى سلوك الإنسان العربى ؟ بمعنى أن يصبح سلوكه فى الحياة اليومية مختلفاً عما تعلمه من الكتب؟ وهل هذه الاذواجية فى صالح الثقافة العربية أم ضدها ؟ سيل من الأسئلة تدفق إلى ذهنى وأنا أرقب معركة طفل جارى مع اللغة .

التاريخ يعكس لنا حقيقة ، أن ازدهار الفصحى وانكسارها أمران مرتبطان بالحراك الثقافى العام أكثر من أى شيئ آخر، وهو حراك مرتبط بدرجات الوعى وقدرة المجتمع على التفاعل مع الثقافات الأخرى ، والرغبة فى التطور والنهوض ، والعكس صحيح ، ففى عصور الركود العثمانى منيت الثقافة العربية بأفدح خسائرها ، وقد عكست اللغة هذا الخسران الثقافى الذى لم يقتصر على لغة الخطاب اليومى فقط بل طال لغة الخطاب الرسمى والمكتوب ، بما يعنى أن العلاقة بينهما وثيقة وعميقة كتوأم ، والذى يراجع مؤلفات هذه الفترة يلاحظ حجم الخراب والركاكة التى أصابت اللغة الأدبية ولم يسلم منها كبار مثقفى هذه الفترة ، ويمكن مثلاً ملاحظة شيوع العامية فى كتابات مؤرخ كبير مثل الجبرتى .

وإذا كان هذا شأن اللغة فى عصر الخلافة العثمانية الإسلامية ، فإن الطريف أن الأمور فى عصر الاحتلال الأوربى كانت على العكس تماماً ، وكأن الاحتلال استنفر همة مثقفى الأمة للنهوض بها وأول مظاهر هذا ، كان النهوض بلغتها، كما أن انتشار التعليم أدى إلى رقى اللغة وتحولها إلى علامة على رقى الإنسان ذاته ، فارتبطت قيمة المثقف أو السياسى ـ مثلا ً ـ بدرجة تمكنه من اللغة العربية ، بغض النظر عن أصوله العرقية والدينية ، أو توجهه ، سواء كان تقدمياً أو محافظاً ، فقاسم أمين الذى اشتهر بدفاعه عن المرأة كان ـ أيضاً ـ من أبرز المدافعين عن اللغة ، بل كان أول من خاض معارك اللغة فى العصر الحديث .

يذكر الإعلامي القدير حافظ محمود شيئاً عن هذا فى كتابه ( المعارك فى الصحافة والسياسة والفكر ) ، إذ كان قاسم أمين فى أول اشتغاله بالقضاء لا يتقن العربية فيكتب تقاريره بالفرنسية ، وكان رئيس المحكمة الإنجليزى يدفع بها إلى سعد زغلول ( الأزهرى ) ليترجمها إلى العربية ، ويبدو أن رئيس المحكمة كان يجيد العربية ، فعندما اطلع على ترجمة زغلول لتقرير أمين علق مادحاً .. لابد أن كاتب هذا التقرير صاحب ثقافة أوربية راقية .

قاسم أمين اعتبر هذا عيباً وطعناً فى وطنيته، فأدرك أن الذى لا يمتلك لغته لايمتلك ثقافته ، فاللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب بين الناس ، إنها أداة التفكير ، وبها تنمو الأفكار وتتطور ، وإنه .. إذا كان مهتماً بتوصيل فكرته عن تحرير المرأة فى مجمتع ما، فلابد من أن يتقن لغة هذا المجتمع ، هكذا عقد أمين اتفاقاً مع زغلول ، أن يعلم كل منهما الآخر اللغة التى يتقن ، وكانت النتيجة أن أصبح أمين مصلحاً لغويا ، وتمكن زغلول من إلقاء خطاب له بالفرنسية فى حفل تأبين الأديب الفرنسى اناتول فرانس عام 1925، والنتيجة الأهم ، أن تواصلاً فكرياً ربط بين زغلول وأمين ، كان ـ فى النهاية ـ فى مصلحة الأمة ، وفى هذا السياق ، يذكر أن سلامة موسى كان يخطئ لغوياً فى مقالاته ، وسأل فى ذلك فقال : ( أنا أدرسها طوال ثلاثين عاماً فلماذا لاتطاوعنى ؟) وهكذا لفت الانتباه إلى طرائق تعليم اللغة ، وإصلاحها مما علق بها فى عصور الركود الثقافى السابقة ، وكان على الجارم واحداً من الذين اهتموا بذلك .

أما أطرف معارك اللغة فى العصر الحديث فقد قادتها أم كلثوم ، عندما أحيت حفلين غنائيين فى باريس ، واعتبر ذلك انتصاراً للعربية التى لم تتردد تحت سماء أوربا منذ خروج العرب من الأندلس ، ولم يلتفت إلى هذا المعنى إلا نائب المدير العام لمنظمة اليونسكو ، الذى صافح أم كلثوم مهنئاً ، ومؤكداً لها أن قراراً من المنظمة باعتبار اللغة العربية لغة دولية فى سبيله إلى الصدور، اليوم تعتبر العربية أكبر ثالث لغة عالميا وهكذا فكل أشكال الحراك الثقافى : الدين والأدب والفن والسياسة وغير ذلك ، كلها تتضافر فى سبيل إحياء اللغة، وتفاعل هذه الراوفد الثقافية هو ما يفسح مجالاً لمعارك اللغة التى لم نعد نخوضها الآن ، وآثر جارى أن يخوضها مع طفله .

مقالات من نفس القسم