بولص آدم
يصدر مروان ياسين الدليمي نصَّه «الأرشيف المفقود للأحلام غير المتحققة» (2025) بعبارةٍ افتتاحية مكثفة تقول:
«نحن نعرف فقط أن هناك شعورًا يرافقنا دائمًا: أننا تأخرنا».
عبارةٌ تُفتَح بها بوابة زمنٍ مخلوع من سياقه، وتُعلن منذ البدء أن الكتابة في هذا النص ليست فعلًا سرديًا تقليديًا، بل تجربة ميتافيزيقية تُسائل الوجود ذاته. وقد أُدرج العمل ضمن القائمة القصيرة في المسابقة الوطنية العراقية الأولى للرواية القصيرة جدًا لعام 2025، بوصفه تجربة تجريبية تتجاوز الحدود التصنيفية المعتادة وتؤسس لوعيٍ سرديّ جديد.
يقدّم النص تجربة فريدة تتخذ هيئة أرشيف لمخطوطات مجهولة الكتّاب، محفوظة في أدراج خيالية من «زمنٍ لم يُمنح لنا بعد». تتوزع المقاطع كأنها شظايا من وعي كونيّ متشظٍّ، تحمل عناوين رمزية مثل: «المدينة التي لا تتذكر أسماء سكانها»، «المخطوطة التي تكتب نفسها بعد موت صاحبها»، «الكاتب الذي لم يوجد قط»، و*«الفصل الأخير الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالغياب». في كل مقطع يتحدث راوٍ غامض — هو في الوقت نفسه ظلّ الكاتب وصدى اللغة — بوعيٍ تأمليّ يربط بين الكتابة والذاكرة والعدم. وترافق النص شخصية رمزية تدعى أبو القايم الليلي الأندلسي، يصفه السارد بأنه من «بقايا حكماء طليطلة الذين كتبوا في الظل وقُرِئوا في الحلم»، وهو الراوي الميتافيزيقي الذي يعلّق على المخطوطات ويعيد تأويلها كأنها أثر من حضارة ضائعة.
اللغة في النص أقرب إلى الشعر منها إلى النثر؛ فهي مكثفة، ذات إيقاع داخليّ، تشتغل على المفردة كرمز وعلى الجملة ككثافة شعورية. تتكرر فيه ثيمات الزمن المفقود، الغياب، المرايا التي لا تعكس شيئًا، والكتابة التي تكتب نفسها. هذه الرموز تشكّل شبكة دلالية متماسكة تجعل النص ينتمي إلى أدب الميتا-سرد، حيث لا تروي الحكاية نفسها، بل تفكر في فعل الحكي. كل فقرة تبدو كأنها قطعة من حلمٍ يتكرر، لا بداية له ولا نهاية، في حركةٍ دائرية تشبه تنفس الذاكرة نفسها. في جوهره، يتأمل النص مأساة الكاتب والإنسان المعاصر الذي يعيش بين ذاكرة لم يكتبها ومستقبل لا يملكه. فالكاتب هنا لا يدوّن العالم، بل العالم هو الذي يدوّنه. ومن هذا القلب الوجودي، تنبع جمالية النص الذي يحوّل «الغياب» إلى لغة و«الحلم المؤجل» إلى بنية. إنها رواية قصيرة جدًا في شكلها، لكنها رواية كبرى في دلالتها، إذ تمارس فعل الوعي أكثر مما تمارس فعل الحكاية.
يقول السارد:
«المخطوطة تكتب نفسها بعد موت صاحبها، كأن الكلمات قررت أن تنجو من الذاكرة كي لا تموت معه».
هذه العبارة تلخّص طبيعة النص بوصفه أرشيفًا للوعي والحلم والغياب في آنٍ واحد، حيث تتحوّل الكتابة إلى ذاتٍ تفكر في ذاتها، ويغدو السرد فعلًا فلسفيًا يمتحن حدود اللغة والزمن. هنا يُستحضر الراوي الميتافيزيقي بوصفه وظيفة سردية متحوّلة، لا شخصية محددة، كما يرى الباحث الألماني ماتياس غْرونه (Matthias Grüne) في دراسته «نظرية السرد ونظرية الأجناس» (جامعة فوبرتال، 2017)، حين يصف الراوي بأنه «وظيفة تعبيرية» لا تمثّل بالضرورة شخصًا، وأن السرد ذاته ليس جنسًا أدبيًا واحدًا، بل موقف تعبيري شامل (Aussagesituation) يمكن أن يظهر في كل الأنواع الأدبية.
ويتقاطع هذا الفهم مع ما تطرحه الناقدة العراقية د. نادية هناوي في مقالتها «العبور الأجناسي: التعيين والتماهي» المنشورة في مجلة الجديد (العدد 78، يوليو/تموز 2021)، حيث تؤكد أن العبور الأجناسي ليس سوى إعادة تعريف لحدود النصوص وانفتاحها ما وراء الأجناس، قائلة إن «لولا العبور الأجناسي لما امتلكت الرواية إمكانيات هائلة دفعت ميشيل بوتور إلى أن يصفها بالبحث، تدليلًا على تجريبية كتابتها وإدراكها لحقيقة الحياة التي فيها البشر محاطون بالقصص دون انقطاع». هذا التقاطع بين غْرونه وهناوي يمنح نص الدليمي بعده النظري الأعمق، إذ يضعه في سياق الأدب الذي لم يعد يُعرّف بنوعه، بل بقدرته على إنتاج الوعي من خلال تداخل الأجناس.
من هذا المنظور، لا يمكن حصر الأرشيف المفقود للأحلام غير المتحققة في تصنيف “الرواية القصيرة جدًا” بوصفها جنسًا سرديًا مستقرًا، فالنقد الحديث لم يكرّس بعد هذا المصطلح علميًا، لكنه أتاحه كفضاءٍ تجريبي يجمع بين الاختزال الدلالي والامتداد الرمزي. إنّ نص مروان ياسين الدليمي يقدّم نموذجًا لما يمكن تسميته بـ الميكرو–رواية؛ نصّ يضغط التجربة الروائية في لغةٍ شعرية مشبعة بالفكر، ويعيد تعريف السرد لا كوسيلةٍ لتمثيل العالم، بل كفعل تفكّر فيه. هكذا يتحوّل النص إلى مرآة للوعي ذاته، لا للواقع، وإلى مساحة لغوية تتكلم فيها الأحلام أكثر مما تتكلم الوقائع.
في ضوء نظرية السرد الحديثة، يجسّد النص ما يسمّيه ماتياس غْرونه «الاستمرارية المفهومية عبر العصور» — أي أن الأسئلة الكبرى عن الحكي واللغة والوعي تبقى ثابتة وإن تغيّرت أشكالها. فالنص العراقي هنا يعيد طرح سؤال الكتابة والغياب بلغةٍ رمزية حديثة، ليغدو السرد استمرارًا للتفكير الإنساني في ذاته، وتجسيدًا لذاكرةٍ تتجاوز حدود الزمان والمكان. كما يحقق ما تسميه نادية هناوي «العبور الذاتي للنص»، حين يصبح النص كائنًا واعيًا بذاته وبانغلاقه المفتوح على المعنى. يقول السارد:
«كل مخطوطة هي مرآة لأخرى، لكن المرايا لا تعكس سوى الفراغ»،
«الفصل الأخير لا يُكتب بالحبر، بل بالغياب».
هنا تتقاطع فلسفة السرد عند غْرونه مع الحسّ الوجودي للنص العراقي؛ فالسرد ليس شكلًا، بل علاقة بين القول والفعل، بين ما يُروى وما يُسكت عنه. الكتابة في «الأرشيف المفقود للأحلام غير المتحققة» تبحث عن معنى الحكاية، ولا تروي العالم، بل تخلقه من جديد في كل قراءة.
بهذا المعنى، فإن نص مروان ياسين الدليمي ليس رواية قصيرة جدًا بالمعنى الشكلي، بل تجربة لغوية وفكرية تمارس فعل العبور السردي للأجناس، حيث تتلاقى اللغة بالشعر، والفكر بالأسطورة، والتأمل بالغياب. إنه نص يبرهن أن الأدب ما زال قادرًا على إعادة خلق العالم بالكلمة وحدها، وأن الأحلام — وإن لم تتحقق — تظل تجد في الكتابة مكانها الأخير. «إنه الأرشيف الذي لا يحفظ الأحلام، بل يكتبها من جديد كلما حاولنا نسيانها».

















