سمر الفيومي
سؤالٌ يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه في الحقيقة دائما ما يطرح من الجمهور المتلقي، كما أنني صادفته ذات مرة كعنوان لفصل أول في أحد الكتب النقدية، وجاءت إجابته جافة وباردة تحمّل الفن أكثر مما يحتمل،
تقيد الكتابة عن السينما في منطقة عقلانية للغاية خالية من الشعور. لكن هذا الطرح لم يُقنعني بدا لي ناقصًا، مغايرا لما اشعر به عقب الاستماع بفيلم ما، فعلاقتنا بالسينما لا تبدأ من العقل، بل من الإحساس.
حاولت أن أطرح السؤال على نفسي بصدق: لماذا أشعر بالحاجة إلى الكتابة عن فيلم ما؟ لم أجد إجابة مرتبة كما في كتب النقد. وأول ما تبادر إلى ذهني هو تلك الحالة التي تعقب مشاهدة فيلم جيد الصنع؛ حالة النشوة أو الذوبان التام داخل تفاصيل العمل. فيلم يوقظ داخلك مشاعر لم تكن تعلم بوجودها، يجعلك تبكي رغم أنك كنت في حالة نفسية مغايرة، أو يثير غضبًا لا تعرف مصدره، أو يمنحك ضحكة صافية انتشلتك من عبوس يومك. توحدك مع الشخصيات، تعاطفك، رغبتك في الحب أو في البحث هذا ليس شيئا هامشيا بل هو جوهر التجربة السينمائية.
بعد المشاهدة، نبدأ عادة في الكلام، نثرثر عن الفيلم، عن مشاهده، عن شخصياته، عن نهايته وحلاوة مذاقها لكن في لحظة ما يكون الكلام غير كاف كأن التجربة أكبر من أن تُختزل في جمل عابرة. وهنا تحديدًا تولد الرغبة في الكتابة ليس بدافع الرفاهية بل حاجة ملحة كجنين يجب أن يولد. والكتابة في هذه المرحلة ليست استمرارًا للمشاهدة، بل انتقالًا إلى مستوى آخر من علاقتك بالفيلم.
الفرق بين الحديث والكتابة مختلف، حين نتحدث، نلجأ إلى الانطباعات السريعة؛ أحببته، لم يعجبني، كان مملًا. أما حين نكتب، فنكون أكثر حرصا في اختيار الالفاظ نكون مجبرين على التفكير، الكتابة تكشف ضحالة أحكامنا الأولى، وتدفعنا إلى تفكيك العمل إلى عناصره الاولى، لماذا لم يعجبني الفيلم؟ هل المشكلة في الإيقاع؟ في البناء الدرامي؟ في الشخصيات؟ أم في طريقة التناول نفسها؟ هنا يتحول الشعور إلى سؤال، والسؤال يحتاج إلى اجابة.
الكتابة تستحضر مشاعرك وملاحظاتك أثناء المشاهدة، يعمل خيالك بمقام شريط السينما، فتبدأ في عرض الفيلم بمخيلتك، لكنه ليس عرضاً مصمتاً كما تلقيته، وإنما يكون العرض مصحوباً بانفعالاتك أثناء التلقي
الكتابة عن الأفلام هي في جوهرها فعل وعي بالتجربة التي مررنا بها كمشاهدين.
إدراكنا لوجود قارئ يتلقى ما نكتبه يضيف بعدًا آخر للكتابة فالناقد أو الكاتب لا يكتب لنفسه فقط، بل يتحمل مسؤولية تقديم قراءة محايدة وصادقة، هنا يصبح من الضروري الفصل بين الأهواء الشخصية والحكم النقدي المنضبط فنحن لا نكتب لأننا أحببنا أو كرهنا فقط، بل لأن الفيلم طرح أفكارًا بداخلنا ونجح أو فشل في التعبير عنها سينمائيًا.
الكتابة الجادة تفرض علينا الحياد والالتزام بما هو مطروح على الشاشة، لا بما كنا نرغب نحن في رؤيته.
كما أن الأفلام لا تثير المشاعر فقط، بل تفتح أبواب التفكير.
فيلم اجتماعي قد يدفعنا للتساؤل حول الطبقية أو العدالة أو السلطة، فيلم نفسي قد يضعنا أمام أسئلة الهوية والاغتراب والهشاشة الإنسانية ثم ينتقل لتحليل كيف يعبر الفيلم عن هذه القضايا باستخدام الأدوات السينمائية.
وفي لحظة الكتابة تتساءل لماذا أثر هذا المشهد فيّ؟ كيف لعبت الإضاءة أو الموسيقى أو الأداء التمثيلي دورًا في هذا التأثير؟ هنا تتحول الكتابة إلى أداة لفهم الفيلم بطريقة أكثر عمقًا.
يمكن القول إن الرغبة في الكتابة تنشأ من محاولة الفرد تفسير تجربته الشخصية مع الفيلم من خلال التحليل الأكاديمي. فكما سبق وذكرت، مشاهدة فيلم قد تثير مشاعر معينة مثل الحزن أو الفرح، لكن تحليل الفيلم والكتابة عنه تساعد في تفسير سبب شعورنا بهذه المشاعر، وتقدم إطارًا لفهم العلاقة بين الأساليب السينمائية وتجربتنا الشخصية. لذلك فالرغبة في الكتابة تتجاوز الانطباعات الأولية للمشاهدة لما هو أعمق، كمحاولاتك لفهم العالم من خلال نافذة الفن.













