قراءة لقصة الصيد للكاتبة الهندية البنغالية: مهاسويتا ديفي

حميد عقبي

تمثل الكاتبة الهندية البنغالية مهاسويتا دِيفي من الأصوات السردية المهمة في جنوب آسيا؛ فقد كتبت بنبرة مزجت التوثيق بالخيال، وجعلت من أصوات السكان الأصليين والنساء والعمال خرائط للذاكرة والمقاومة. تأسس مشروعها على تتبع البنى المادية للاستغلال، وخاصة الأرض والغابة والملكية والعمل اليومي، وربطتها بعنف الدولة والذكورة والأسواق.
في كتاباتها عمومًا سنلمس حضور ثيمات السيادة الجسدية، ومحاولة البحث عن العدالة من أسفل المجتمعات، وتتأمل طقوس الجماعات كأنها تصنع قوانين بديلة، وخاصة حين تتواطأ المؤسسات الرسمية وتَصمت عن الظلم والقهر. كما تحضر كذلك مفارقة اللغة نفسها: كيف تُروى معاناة الهامش دون تزيين أو مصادرة، ودون صناعة تعاطفٍ وقتي؟

في مجموعة «خرائط تخيلية» بلورت دِيفي هذه الرؤية عبر ثلاث قصص. عندما نتمعن في قراءتها سنجد أن هذه النصوص تضع الجسد في مواجهة اقتصاد الموارد، وتستدعي الأسطورة والطقس لتوليد معرفةٍ مقاومة.
تشتغل هذه القصص على جغرافيا ملموسة؛ تصوِّر الكاتبة القرى والتلال والوديان والطرق وأشجار السال والمهوا، بحيث تجعلنا نشعر أن المكان جهازٌ دراميٌّ يكشف البؤس ويفضح شبكة المصالح والنهب ويستعيد حق المجتمعات المحلية في تعريف العدالة.
هنا نجد مجابهة مشكلات ما بعد الاستعمار تعتمد نقاشًا جادًّا حول قضايا وتفاصيل الأجر والرشوة والنقل والتسعير، وكتبت مهاسويتا دِيفي قصصها ببصيرةٍ نسوية جعلت الحميمي سياسيًّا. في هذا الأفق يمكننا أن نقرأ الجغرافيا كأرشيفٍ للذاكرة، ونقرأ اللغة كأداة مساءلةٍ لخطاب التنمية الشكلية المزيّفة الذي يلمّع القمع ويغطي العنف اليومي.

في القصة القصيرة «الصيد» تتجسد كل هذه العناصر التي لمحنا إليها بحدّةٍ خاصة. فالبطلة ماري أوراوون ابنةُ أمٍّ قبَلية وأبٍ أبيض إنجليزيٍّ غائب، غادر بعد استقلال الهند؛ هنا اختلافُ البطلة منحها حسَّ استقلالٍ ورفضًا للتشييء. يقتحم القرية سمسارُ الأخشاب تهسيلدار سينغ، عارضًا أجورًا زهيدةً وخمورًا ووعودًا، ومطاردًا ماري بوصفها غنيمة. تتسع المطاردة لتفضح بنيات القوة: نرى تواطؤًا محليًّا، قانونًا معطَّلًا، وغابةً تُباع شجرةً شجرة.
تتكئ القصة على طقس جاني باراب، وهو الصيد النسوي الذي يتكرر كل اثنتي عشرة سنة. عند انقلاب اللعبة تتحمس ماري للصيد؛ فالطريدة ليست حيوانًا بل الشخصُ الطامع فيها والذي يهددها لتُسلِّمه جسدها. باستدراجٍ واعٍ إلى صخرةٍ فوق وادٍ سحيق، تسكره، وتلتقط اللحظة التي ينقلب فيها قناعُ الحضارة إلى وجه الحيوان، فتقضي على هذا المطارد الخطر وتستعيد سيادتها وتغتسل كطقسِ ميلادٍ جديد.

ملخصٌ مكثف لفهم هذه القصة:
في كورودا/توهري يرسم القطارُ والتلُّ والوادي مسرحَ الأحداث. ترعى ماري ماشية آل براساد وتبيع ثمار الأرض وتنتزع حقها في المهوا. يصل تهسيلدار ليشتري أشجار السال ويحتكر القطع مستخدمًا المالَ والخمرَ والرشاوى لإخضاع الشيوخ والعمال، ثم يطارد ماري جنسيًّا.
ترفضه وتقاومه، وتَعِده بلقاءٍ يوم العيد. عند دورة النساء للصيد تقوده خلف دَغَلٍ عند الحافة؛ تمنحه السجائرَ والخمر، وحين يكتمل فخُّ الطقس تَهوي ضربتُها بالمنجل. بإخفاء الجثة تُغلَق فرجةُ العنف وتبقى رمزيته: عدالةٌ تنبع من ذاكرة الجماعة حين تغيب الدولة. في الختام تمضي ليلًا عبر التل نحو توهري لتوقظ جاليم وتبحث عن حياةٍ مفتوحة، مؤكدةً أن الخلاص ليس خاتمةً وردية، بل طريقًا جديدًا وشجاعةً متجددة.
وهكذا إذن تمكنت دِيفي من رسمِ أدبٍ يُعيد تعريف السلام الاجتماعي بوصفه عدلًا ملموسًا وحقوقَ أرضٍ وعمل، وسيادةَ المرأة على جسدها. في هذا النص الأدبي سنشعر أن بساطة الجملة تتحول إلى حُجّةٍ أخلاقية، والأكثر دهشةً جمالياتُ المكان ومشهديةُ الحوارات.

حِرَفية السرد الأدبي، المشهدية ونصرة المهمّشين
تشتغل مهاسويتا دِيفي على تقاطُعٍ لافت بين حِرَفية السرد الأدبي وتقنيات السيناريو السينمائي؛ لذا تبدو قصصها كأنها مكتوبة بكاميراٍ تتحرك داخل عالمٍ يُرى ويُسمَع قبل أن يُحلَّل. في «الصيد» يظهر ذلك منذ اللقطة/الافتتاحية:
خطّ القطار، تلة كورودا، الوادي الصخري، البامبو الذي يصفع العربات؛ هذه الديكورات تبدو ناطقة ومتحركة، وكذلك أشبه بـ«ستوريبورد» مكاني يؤسِّس لمسار الحركة والتوتّر.
تُنجز دِيفي ما يشبه ميزانسِينًا دقيقًا: ارتفاع/انخفاض، داخل/خارج، كشف/إخفاء؛ هذه التقنية خلقت من التضاريس جهازَ حبكة (التلة للصعود كشحنٍ درامي، الوادي للمحو كخاتمة عدالة، الصخرة كموضع فخّ).

على مستوى التعريف السريع بالشخصية—أسلوب سيناريوي—تُعرّف ماري بسماتٍ مشهدية مبتعدة عن الوصف الخطابي: طولها، جلدها النحاسي، نظرتها الرافضة، المنجل في يدها، مهارتها في السوق، تفاوضها مع تجّار تورهري، تدخينها، واختيارها خطيبًا مسلمًا؛ كل مشهد يكتب اختلافها بوصفه هوية مُتقاطعة وذات خصوصية.
تُظهر دِيفي مبكرًا قواعد العالم (مهوا/سال/أجور/رشاوى) كي تُقنعنا بأن كل فعلٍ لاحقٍ له تكلفة واقعية، وهي تقنية تشبه «زرع السلاح» في السيناريو؛ إذ يتحوّل المنجل من إشارة أولى إلى أداة حكمٍ طقسي في الذروة.

أما الشرير فيُخلَق بسرعة ودقّة على الطريقة «البوليوودية»: سمسارُ الأخشاب تهسيلدار، نظارات داكنة، قميص صارخ، لغة السوق والرشوة، مطاردة المرأة كامتداد لنهب الغابة. لكن دِيفي لا تتوقف عند هندسة التشويق والمؤامرة؛ فهي تُحمِّل هذا الصراع طبقاتٍ فكرية: الاستغلال، قانون الدولة الغائب/المتواطئ، تواطؤ الوجهاء، وحقّ القبائل في تعريف العدالة.
هنا يشتغل «السينمائي» في خدمة «السياسي»، لنتأمل إيقاع المشاهد القصيرة، القطع بين السوق/الغابة/البيت، وتكثيف التفاصيل الحسية (رائحة الخمر، ثقل أكياس المحصول، خشونة الخيزران)؛ كل هذا جاء من أجل تثبيت حقيقة العالم الذي تُعلن داخله أطروحتها النسوية الشجاعة التحريرية.

تستثمر دِيفي كذلك تقنية المونتاج المعنوي: فالمشهد الاحتفالي (جاني باراب) لا يهدّئ التوتر بل يضاعفه ويقويه، وتضع هزج النساء وأغانيهن في تراكبٍ مع مطاردة تهسيلدار؛ من هنا تنتج جدلية «الطقس/العدالة».
وحين تبلغ الذروة، نجد أنها لم تقدّم «مشهد قتل استعراضيًا»؛ بل تقطع على الإيحاء (رمي الجسد في العتمة، اغتسال ماري)، مما يؤدي إلى منع فرجة العنف؛ تجنبت الكاتبة الإثارة الوقتية الساذجة لكنها أبقت رمزيتها—وهي براعة سردية/سينمائية تُحافظ على أخلاقية النظر.

في الجوهر، وظّفت دِيفي أدوات الفيلم الشعبي—التعريف السريع، رسم الشرير، تصعيد المؤامرة—ثم عكست وظيفتها من أجل شحذ وعيٍ جمعيّ بأن العدالة قد تحتاج مقاومةً حقيقية.
كأن نصّها يهتف في أذن كل امرأة: لا تسمحي لأحد أن يستملك جسدك، دافعي عن نفسك—حتى لو تطلّب الأمر بعض العنف العادل حين تغيب الدولة وتنهار القوانين.
هكذا نلمس «السينمائية» عند دِيفي كوسيلة ليُكتب بها سيادة الجسد وحقّ المهمّشين في صوغ نهاياتهم.

مساءلةٍ وتحليلِ الواقع
يذكّرنا نص «الصيد» بأن الأدب لا يكتفي بعكس الواقع، بل يدخل معه في حوارٍ ومساءلةٍ وتحليل. تبني مهاسويتا دِيفي عالمًا ملموسًا من التفاصيل الدقيقة، مثل: خطّ القطار، الغابة، أجور اليوميات، أشجار السال والمهوا، رشاوى السمسار، وحديث السوق.
هذه العناصر تُستخدم كأدوات كشفٍ لآلية القهر وتطبيعها، إذ تظهر ماري لا كـ«حالةٍ فردية» بل كتمثيلٍ لنساءٍ يُقرأ تهميشهنّ على أنه حقٌّ مكتسَب للمتسلّط؛ فهذا السمسار يرى جسدها امتدادًا لخشبٍ قابلٍ للقطع، وبعض الوجوه في القرية تستسيغ المساومة باسم «الرزق».
يلفت النص انتباهنا بشدّتين متوازيتين: شدّة المشهدية (القطار/التل/الوادي) وشدّة الأخلاق السياسية التي لا تُصرَّح خطابيًا بل تُبنى من الدليل المادي؛ أي من السعر، والجهد، والعرق، والجوع.
القراءة النافعة إذًا ليست عمليةَ بحثٍ عن «عِبرة» مُعلَّبة، بل تفكيكٌ لبنية العلاقة بين نهب الأرض وتشييء الجسد، وبين القانون الغائب والعدالة التي تُصاغ عرفيًا عند لحظةِ ضرورة.

في كثيرٍ من الواقع الهندي والآسيوي يُطلب من الأدب—ضمنيًا—أن يلمّع عاداتٍ ذكوريةً ويبرّر سطوةَ المؤسسات، ويدفع الفردَ إلى زاوية الخضوع باسم الشرف أو التقاليد. «الصيد» تفلت من هذا القيد: لا تسير خلف سردية «التراث» بوصفه معصومًا، بل تُعيد فحصَه وتفعيلَ ما فيه من قوةِ مقاومة.
تأمّلوا ما يحدث في طقس «جاني باراب»: لا يُستدعى لتزيين الفولكلور؛ يُستدعى كقانونٍ بديلٍ يمنح النساء وكالةً حين تفشل الدولة. تنتقد دِيفي نساءَ القرية اللواتي لا يُمارسن هذا الحقَّ الذي يأتي كلَّ 12 عامًا، ويكتفين بالرقص والأكل والشرب، وكأن الكاتبة تشير إلى ضعفٍ في المنهج النسوي. كما أن دِيفي لا تكتب «بطلةً معجزة»، بل امرأةً تبني سيادتَها من مهاراتٍ يومية: التفاوض، المساومة، الدفاع عن الحقّ ورفض الخضوع، واختيار شريكٍ خارج «النقاء» القبلي.
كما فكّك النصُّ منطقَ «السلام» القائمِ على الصمت؛ فالسلام الذي يقوم فوق جثثٍ مُغطّاةٍ بالقانون ليس سلامًا. بهذا الانحياز تُخرج دِيفي الأدبَ من دور التبشير بالطاعة إلى دور مساءلة السلطة، وتعيد تعريف «التراث» كفضاءٍ يتّسع للنقد والحقوق، لا كقيدٍ على الجسد والاختيار.

تتقاطع قراءاتُ النقّاد لدِيفي على محاور أساسية، ويمكن أن نأخذ أهمَّها كالتالي:
أولًا: قدرتُها على جمع التوثيق بالرمز؛ فهي تُراكم وقائعَ الاقتصاد السياسي للغابة والعمل، ثم تدفعها إلى طبقةٍ طقسية/أسطورية تمنح الفعلَ دلالةً جماعية.
ثانيًا: نسويّتُها العملية—لا الشعاراتية—حيث تُرى السيادةُ الجسدية في أفعالٍ مادية لا في خُطب: المنجل، الاغتسال، المساومة، اختيار الشريك.
ثالثًا: لغتُها «الفقيرة» المتعمّدة؛ جُملٌ مقتصدة تُظهر القسوةَ بلا مساحيق، وتمنح القارئ عبءَ الاستنتاج الأخلاقي.
رابعًا: بناءُ المكان كشخصيةٍ فاعلة—التلّة/الوادي/الصخرة—في كتابةٍ قريبةٍ من سيناريو مدروسِ المشهدية. تحفّظ بعضُهم على صرامةِ الموقف الأخلاقي الذي يزحزح الحدودَ بين العدالة والعنف، لكن الغالبَ رأى أن «العنف» هنا ليس تمجيدًا، بل تسميةً لملاذٍ أخير في عالمٍ تُغلق فيه الأبواب أمام النساء والمهمّشين. إجمالًا، تُقيَّم دِيفي كصوتٍ يوسّع خرائطَ الهند من الهامش إلى المتن.

الإبداع أداةُ دفاعٍ مدني ضد الظلم والطبقية والعنصرية
في عالمٍ تتصاعد فيه الشعبوياتُ العنصريةُ والسلطويات، وتُقدَّس فيه قوةُ المال والنفوذ كـ«قدرٍ إلهي»، تذكّرنا قصةُ «الصيد» بأن السردَ والإبداعَ الأدبي—بشكلٍ عام—أداةُ دفاعٍ مدني.
يكشف النصُّ خطابًا قديمًا متجدّدًا، حيث يتم تقسيمُ البشر إلى سادةٍ وعبيدٍ بأسماءٍ عصرية—«تنمية»، «استثمار»، «تراث»—تُغطّي افتراسَ الأجساد والأرض. ماري تتحدّى هذه القسمةَ من موقعٍ هشّ، لكنها تستعيد قوةَ تعريفِ ذاتها وحقَّها في النجاة.

القراءة اليوم تستدعي حوارًا مع قوانينِنا ومؤسساتِنا: أيُّ عدالةٍ تُطبَّق حين يكون القانون أعمى أو متواطئًا؟ وأيُّ «سلامٍ اجتماعي» نريد: سلامُ الصمت والخوف، أم سلامُ الحقوق الملموسة؟
إن استعادةَ طقسٍ نسويٍّ كقانونٍ بديلٍ في القصة ليست وصفةً جاهزة، بل مجازٌ يُطالب بآلياتِ إنصافٍ تصل إلى من تُركوا خارج أبواب المحاكم والبرلمانات. هكذا تُنبّهنا دِيفي إلى أن إنقاذَ الحياة قد يمرّ، أحيانًا، عبر كسرِ طقوسِ الطاعة.

مهاسويتا دِيفي
مهاسويتا دِيفي (1926–2016) كاتبةٌ بنغالية وناشطةٌ ميدانية، كرّست قلمَها لأصوات السكّان الأصليين والنساء والعمّال. حملت مشروعَها بين السرد والتحقيق الصحفي والعمل الحقوقي؛ وكتبت عن الأرض والغابات والديون القسرية وأجور اليوميات، والتقطت تواطؤَ البيروقراطيات مع رأس المال والذكورية. نالت جوائزَ مرموقة داخل الهند، ووصلت أعمالُها إلى جمهورٍ عالمي عبر الترجمات، وتُدرَّس نصوصُها في مساقات الأدب وما بعد الاستعمار والدراسات النسوية. من أبرز أعمالِها: «دروبَدي»، «رودالي»، «أمّ الألف وأربعمئة وثلاثة وثمانين»، «شوتّي موندا وسهمه»، ومجموعة «خرائط تخيلية» التي تنتمي إليها قصة «الصيد».
لغتُها مقتصدةٌ وشفّافةٌ أخلاقيًا، وتَعتبر الطقسَ والذاكرة العُرفية مصادرَ للشرعية حين يتعطّل القانون. في صلب مشروعِها دعوةٌ إلى عدالةٍ ملموسة: حقوقِ أرضٍ وعمل، وسيادةِ جسدٍ وكرامة، بحيث يصير الأدبُ خريطةً للمقاومة لا مرآةً صامتة.

……………………

*فصل من كتاب نقدي يصدر قريبا بالسويد.

 

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع