داود عبد السيّد.. رحلة البحث عن المعنى

أسامة كمال أبو زيد

منذ المشاهد الأولى في سينما داود عبد السيّد، نكتشف أننا لا نشاهد فيلمًا بالمعنى التقليدي أو المعتاد، بل نخطو داخل رحلة. رحلة لا تبدأ من حدث، ولا تنتهي بحل، بل تمضي بنا في طريق متعرّج، تتبدّل فيه الأسئلة أكثر مما تتبدّل الأمكنة. داود لا يقدّم الحكاية بوصفها غاية، بل بوصفها وسيلة، جسدًا تتحرّك فيه الروح وهي تبحث عن معناها وسط عالمٍ ملتبس.

في بداياته، كما في «الصعاليك»، لا يضعنا أمام قضية اجتماعية بقدر ما يضعنا أمام إنسان يكتشف هشاشته. شابّان يركضان خلف وهم الصعود، ليكتشفا أن الطريق لا يقود إلى القمة، بل إلى مرآة يرى فيها كلٌّ منهما عجزه عاريًا. هنا تبدأ الرحلة: حين يسقط الوهم، ويصير السؤال ضرورة داخلية لا مهرب منها.

هذه الرحلة لا تسير في خط مستقيم. ففي «البحث عن سيد مرزوق» تتحوّل إلى متاهة، حيث يبدو العالم منظّمًا من الخارج، لكنه هشّ من الداخل. يظن البطل أنه يبحث عن شخص، ثم يكتشف متأخرًا أنه يبحث عن معنى، عن منطق خفي يحكم ما يراه وما لا يراه. وكلما اقترب، اتّسعت المسافة، لأن المعنى في سينما داود لا يُمنَح، بل يُطارَد.

وحين نصل إلى «الكيت كات»، لا تتوقّف الرحلة عند حدود العجز الجسدي، بل تتجاوزها إلى أفق آخر. الشيخ حسني لا يستعيد بصره، ولا يُكافَأ، لكنه يتعلّم أن يرى العالم بطريقة مختلفة. يضحك، يعزف، يحلم، ويمضي في شوارع الحيّ كمن يعيد تعريف الحياة بشروطه الخاصة. هنا لا يصبح المعنى في التغيير، بل في طريقة العيش.

داود عبد السيّد لا يصنع سينما قضايا، بل سينما الرحلة إلى الداخل. في «أرض الأحلام» لا نتابع حكاية امرأة تحلم بالهجرة فحسب، بل نصغي إلى روح محاصرة، تكتب اعترافها بصوت خافت، وتبحث وسط الضيق عن نافذة صغيرة للنجاة. الحلم هنا ليس مشروع خلاص، بل ضرورة نفسية، آخر ما يتشبّث به الإنسان كي لا ينهار.

وتتعمّق الرحلة أكثر حين يتعدّد الصوت. في «مواطن ومخبر وحرامي» تتقاطع المصائر دون أحكام، ويعلو صوت الراوي كعين ترى من أعلى، لا لتدين، بل لتفهم. المعنى هنا لا يقيم في أحدهم وحده، بل في المسافة التي تجمعهم، في ذلك الخيط غير المرئي الذي يجعل الجميع أسرى للعبة واحدة، كلٌّ بطريقته.

في «أرض الخوف» تبلغ الرحلة ذروتها الأخلاقية. الضابط الذي يدخل عالم الجريمة لا يخرج منه كما دخل، لأن المعنى حين يُختبَر في العمق يترك أثره إلى الأبد. تتآكل الحدود بين الواجب والهوية، بين القناع والوجه، ويصير السؤال: من أنا حين أُنزَع من دوري؟ هنا تتحوّل الرحلة إلى امتحان قاسٍ، لا ينتصر فيه أحد، ولا يعود منه الإنسان بريئًا.

أما في «رسائل البحر»، فتتخذ الرحلة شكل المصالحة. نورا لا تهرب من المدينة، بل تقترب من نفسها. الرسائل ليست وسيلة تواصل، بل كتابة للروح، محاولة لترتيب الداخل قبل مواجهة الخارج. البحر لا يمنح إجابة، لكنه يمنح سعة، والاتساع هنا هو المعنى الممكن.

قلّة أفلام داود ليست نقصًا، بل انعكاس لطبيعة رحلته. كان يعرف أن المعنى لا يُستعجل، وأن كل فيلم يجب أن يكون خطوة صادقة في هذا الطريق الطويل. كتب أفلامه بنفسه لأن الرحلة شخصية، ولأن السؤال لا يُفوَّض. وحتى اختياره للأستوديو لم يكن هروبًا من الواقع، بل إعادة خلق له، واقعًا يسمح للمعنى أن يظهر دون تشويش.

وهكذا، من فيلم إلى آخر، لا تتغيّر رحلة داود عبد السيّد بقدر ما تتعمّق. لا يقدّم إجابات، ولا يعد بالخلاص، بل يضعنا أمام أنفسنا، ويقول بهدوء: افهم هشاشتك أولًا، وستجد طريقك. سينماه ليست بيانًا، بل طريقًا، ليست صرخة، بل همسًا طويلًا.

ولهذا يبقى داود عبد السيّد حاضرًا، لا بعدد أفلامه، بل بصدق رحلته. ترك لنا سينما تشبه الحياة: تمضي بلا يقين، لكنها تواصل السير، لأن البحث عن المعنى، في النهاية، هو المعنى ذاته.

كاتب وشاعر مصري. من أعماله: لك الموت يا راعى اليمامة 2000 رائحة الغياب 2013 بورسعيد شهادات في الحرب والحب كتابة…

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع