د. محمد المسعودي
مما لا شك فيه أن تشكيل الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة يأخذ من الشاعر جهدا كبيرا، وأن ضبط قواسمها لتصير مدار النص ومحوره تستدعي استحضار كل الطاقات الثقافية، والإمكانات التعبيرية التي يمتصها الشاعر من تجربته الحياتية، ومن ممارسته القرائية.
وإن الناظر في ديوان “كتاب الأسرار” لخالد الريسوني يلفي الشاعر حريصا على صنع صوره الشعرية لتكون قطعا ذهبية تكتنز أسرارا إبداعية عميقة الدلالة. هنا في غور صوره تثوي عروش معارف، وأخاييل، ودلالات تجد لها جذورا في ثقافات شتى خبرها الشاعر بحكم معرفته بلغات أربع، وبإبداعاتها، وخاصة في مجال انشغاله: الشعر.
إن من يقرأ كتاب الريسوني، ويصغي إلى تصادي أصواته الشعرية الدفاقة التي يُسر بها في “أسراره”، يصله هسيس لغة بوشكين، وحفيف لغة لوركا، ووسوسة لغة رامبو، ورفيف لغة المتنبي.. وألحان من ثقافات شتى بأمريكا اللاتينية. فأين يتمثل أثر هذه المثاقفة بين ثنايا القصيدة؟ وكيف تعمل على تشكيل الصورة الفنية في نصوص الشاعر؟
في قصيدة “أسرار السقوط”، نلفي أثر المثاقفة جليا في بناء الصورة الشعرية، وفي تشكيل متخيلها، وصنع دلالاتها. في هذه القصيدة يحضر صوت لوركا الذي يغني لزمن السقوط ويشجبه، كما تحضر نبرة بوشكين الحنية الحزينة، والتي تتغنى للثورة والتغيير… كما نجد مخايل شعراء آخرين تتداعى على الذاكرة عبر صور القصيدة، غير أن الشاعر لا يجتر صور هؤلاء الشعراء وينسخها، وإنما يصنع صوره الخاصة، ومعانيه، ودلالاته… وهي معطيات خاصة تجعل قصيدته ذات نكهة دالة على شعريته المتميزة، وعلى تمكنه من ضفر خيوط نصه بأشكال متفردة. يقول الشاعر:
” أقول لها: شكرا… لكن لا تبتعدي عن النهر
فالمواسم وعد يفيض بالأسرار أحيانا
ويغتسل أحيانا بالظلال
أو يشتعل في ضفاف صبح هادئ
كما الشموس تشق صمت النهارات الخريفية
لماذا نغرق في عتمة الحزن عندما يهمس البحر
أنشودته
ويمضي…
وفي المساء نسير خلف رايات العشق المرتجفة
نملأ أزقة المدينة غناء
والموت خلفنا يغني…
الموت يغلق خلفنا أبواب المدينة وهو يغني
ونحن نسير في أزقة المدينة
راياتنا تبكي ونحن نملأ السماء غناء
في هذا المساء الحزين اللامع.
ورغم الحزن أقول لها شكرا
أنت المساء المنفلت إلى كفي
فلا تضعيني فوق الرف
كتابا
أو
سرابا
ولنخرج من الظل نحو هذا العراء الشاسع
أغنية تلبس عباءة الصبا والضياء
وتنساب حروفا سرية نحو الساحة…” (ص.82-84)
هكذا نجد هذه القصيدة، وقصائد أخرى للشاعر، تؤسس مداراتها انطلاقا من مفردات مفاتيح، وهي: الحزن، والأسى، والغناء، والبكاء، والسقوط، والموت، والساحة، والمتاهة، والمكتبة، والعشق… وغيرها من الكلمات التي تنبثق منها صور خالد الريسوني الشعرية في تداعيها مع صور الشعراء الذين أشرنا إليهم، كما تتقاطع، وهي تحفز ذاكرة القارئ وذائقته الجمالية مع صور أخرى، وعوالم إبداعية تتعدى بوشكين، ولوركا، ورامبو لتعانق أسماء أخرى يتم التنصيص عليها مباشرة بين ثنايا النصوص، أحيانا، أو من خلال استحضار عوالمها الإبداعية، أو من خلال العتبات التي يضعها الشاعر بعد إثبات عناوين نصوصه الشعرية، أحيانا أخرى. ونقف في هذا السياق عند استدعاء “خورخي لويس بورخيس”، مرة عبر ذكر اسمه صراحة، كما نجد في قصيدة “أسرار البياض”، ومرة عن طريق حضور عوالمه التخييلية، وبعض رموزه الخاصة التي وظفها في كتاباته الشعرية والسردية، كما هو الحال في قصيدة “أسرار المتاهة” التي نقتطف منها هذا المقطع الدال، يقول الشاعر:
“… هي ذي المتاهة…
كهف مظلم…
مسرح كبرياء
وسلام محبة،
بوصلة وحدود،
رايات وخباء،
جرح ونداء،
ركض وأنفاس متلاحقة،
أشباح كريهة..
معادلات عشائرية…
تعب السنين
السقوط،
الاحتراق،
السمو فوق الجراح…
خلفك رماح من نار تسابق الخطو
وأمامك هوة وأغنية احتضار
فيض جنون في وضح النهار
وألف شعار وخط حصار”. (ص. 52-54)
بهذه الكيفية يجسد الشاعر رؤيته لمتاهة الوجود والحياة، ولتناقضات هذه المتاهة الكونية، متاهة السقوط والموت والجنون والحصار والاغتراب، كما كان النص السابق الذي أشرنا إليه: “أسرار البياض” يحاور متاهة “بورخيس”، ومكتبته الكونية بعوالمها الميتافزيقية، ونظرته إلى العالم الذي يمتلأ باللامعنى، والتباس العلامات، بل وضياعها. وفي القصيدة التي نحللها ترتبط المتاهة برؤية خاصة للشاعر خالد الريسوني، وهي رؤية تكشف عن مدى قدرته على تمثل صور الشعراء الآخرين وإخراجها في إهاب شعري جديد، يدل على شعرية خالد، ويكشف عن “أسرار” مثاقفته.
وقبل أن نختم هذه القراءة لا بأس أن نقف عند قصيدة جميلة أخرى من قصائد “كتاب الأسرار”، وهي قصيدة “أسرار الصمت” التي يقول الشاعر في مقطع دال منها:
“قمر حداد
يتدفق خريفه المكتئب
على قبر مساء حزين.
في ظلال الصمت يستحم
ويهوي مخذولا في مقبرة النسيان
هل صافح امتداد ظله أغصان البكاء؟
أصداء النحيب تحلق في أفق مقفر
تكبر مثل سماوات الجحيم أجنحتها السوداء
تضاعف المرايا العمياء لروحي،
من لهاث الأشجار تنبثق،
من اعترافات الريح،
فتختفي النجوم في صمت،
خنجر نور هارب
يغسل خلوة سماء جريحة”. (ص. 58)
يضج الشاعر في صمته بالشجب، والرفض، والإعلان عن حس ناقد ساخر. حس يحتج على اختلال الوجود واضطراب الواقع. وفي ثنايا هذا النص الذي يعزف على معاني الحزن والبكاء والعماء والموت، ينبثق ظل تجربة عميقة في الحديث عن الصمت، وعن شعرية الصمت ونقيضه. إنها تجربة ذلك الفتى المتمرد الذي خرج من أسر الصمت ليعلن عن أسراره، عن موقفه من العالم ومما يجري فيه، ثم هجر الشعر، أو هجره شيطان الشعر، وانزوى بعيدا عن وسوساته، إنه آرثر رامبو الخالد.
وخالد الريسوني يمضي على درب هذه الشعريات الإنسانية الكبيرة، يمتح منها، يحاورها، ويشكل في ضوء تمرسه بها عوالمه الشعرية المتخيلة، وصوره الفنية الفاتنة. وقد ألمحنا إلى بعض أسرار هذه المثاقفة في هذه القراءة، ولا شك أن هناك أسرارا فنية كثيرة تختزنها نصوص الكتاب نترك أمرها للقارئ الحصيف، ونكتفي بما أشرنا إليه.
…………………………….
*خالد الريسوني، كتاب الأسرار، منشورات بيجماليون، مدريد، 2017. (الكتاب الفائز بجائزة ابن عربي.














