نصّ غير مهذّب

فاطمة الشرنوبي

حملت نفسي أمام حاسوبي الخاص، وقرّرت أن أكتب نصّا يضعني أمام نفسي مع نهاية عام وبدء آخر، في ظني دخول عام جديد يعني تجاوز مرحلة داخل لعبة والانتقال إلى مرحلة تالية ربما أكثر ثقلا مما قبلها، فالحقيقة أنني تصعّدت إلى مرحلة متقدمة من العمر. أشعلت موسيقى حالمة لأغاني فيروز وجعلتها تنساب في أذني عبر سماعات البلوتوث، ورُحت أكتب معها شذرات وبعثرات، شظايا متناثرة استجمعتها بالكاد ووضعتها في قالب نصٍّ، والنتيجة “نصّ غير مهذّب”. هو جميل في نظري، أحببته، وقررت أن أنشره علّ البعض يجد فيه قواسم مشتركة بيننا. نحن الكاتبات الحالمات، نصارع بصمت ونقفز بخفة دون صخب من صفحة لأخرى، لعلّنا نجد فيما نكتب نفساً عميقا تستطيل به أرواحنا العالقة في معمعة مهامّ الحياة اليومية.

على الشاشة البيضاء في حاسوبي الخاصّ أجد مساحتي الشخصية؛ أرقص، أُغنّي، أطرب، أبكي، أُجفّف دمعي، أهمس، وأدوّن كلّ شيء وأيّ شيء.
هنا… أنا حرّة.

***

كم مرّة أقدمتِ على تحطيم هاتفك المحمول لمّا أصدر صوت تنبيه رسالة من العمل؟ كم مرة غضبتِ من الأوراق المتزايدة في سلة المهملات جوار مكتبك وتساءلت: متى سأنهي كتابة روايتي؟

سألت نفسي… وقررت أن أصمت، أن أعتذر لنفسي، أن أغير دفّة الحوار مع ذاتي، ربما عليّ أن أركز أكثر على ما كتبت، ما قرأت، وما تعلّمت في عامٍ إضافيٍّ مضى من عمري.

***

قررت أن أنشر مجموعتي القصصية شبه المكتملة، ثم صرفت النظر تماما. هذه النصوص القصيرة – التي لم يطّلع عليها أحد سوى جهاز الحاسوب – لا تستحق أن تُنشر بعد أن حصلت روايتي الأولى على جائزة تحمل اسم عملاق أدب الستينيات وكل الأزمنة “خيري شلبي”.

لا بدّ من التريث 🤚

***

art

لوحة “آكلو البطاطا” للفنّان الهولندي فان جوخ، وقصّة لم أعرف بعد كيف أبدأها ولا كيف أُنهيها، وهذه بعض اقتباسات غير بريئة منها:

أولسنا نشبههم؟!

لمحت دموعا تترقرق في عيني جدتي، دقّقت النظر في اللوحة، لم تكن مجرد ألوان على قماش؛ بدت ضربات فرشاة الرسام – رغم كونها مقّلدة غير أصلية – حيّة كمرآة تعكس وجوهنا: هذا أبي، وهذه أمي تجلس إلى جواره، تليها خالتي وعمتي وابنتها الصغرى؛ وجوه متعبة التفّت حول طاولة خشبية ليلتهموا البطاطا الساخنة ويشربوا القهوة تحت مصباح زيت معلّق منتصف سقف الغرفة الواطئ. ساعة الحائط تشير إلى اقتراب الثانية عشر بعد منتصف الليل حيث تحاول هذه الوجوه التي برز عظامها أن تستردّ أنفاسها المتعبة كي تستأنف العمل يوم غد.   

يا جوخ، الزمن لم يتحرك قيد أنملة. لم أعد متأكدة إن كنت أرى لوحة مقلدة لـ “آكلو البطاطا” على الحائط في بيت جدتي أم أرى صورة لعائلتنا منقوشة على لوحة. أشعر أن مذاق الكيك في فمي هو ذات مذاق البطاطا في أفواه شخصياتك، الدفء هو الدفء والشقاء هو الشقاء رغم بعد مسافات الزمن بيننا.

مدينة خانقة وعاصمة ملبّدة بالتيه

المدن التي نقشتها الروايات هذا العام ميتة، ضبابية، خانقة، باهتة؛ تكاد السماء تهبط فوق رؤوس عمائرها. مدن غير قادرة على احتضان شخصيّاتها ولا قرّائها. الناس فيها ماتوا، وتركوا أشباحهم تتحرّك عوضًا عنهم في شوارعها الموحلة. أحاديثهم البليدة تنمّ عن خيبات متوالية، تشبه المدينة التي أقيم فيها.

هنا… المكان ضيّق، خانق، لا يستوعب أحلامي ولا يتّسع لكلماتي المتدفّقة على الورق. والعاصمة تقذفني في متاهة مجرّد أن تطأ قدماي أرض رمسيس، والمسافة بينهما لا تُقطع بالقطار، وإنّما بشتات الروح والاضطراب.

***

مدينة خانقة

رئة متعبة، يمكنك عدّ ذرّات الهواء فيها.

بينما تمشين في شوارعها، لا تعدّين نوبات الفزع التي ستصيبك؛ المركبات، من كلّ شكل وحجم ولون، تهبّ من حيث لا تدرين. الجدران مائلة، باهتة، تشبه بعضها، والسماء خفيضة.
هنا… سيبتلعك الروتين، وستمرّين بلحظات ندم طوال العام.
مثل سجن كبير تركضين بين زنزاناته، تبحثين عن وجوه جديدة، عن روائح مختلفة، ولن تجدي.

الملامح متناسخة، والشوارع متشابكة، والأرصفة متكسّرة، وأعمدة الإنارة نائمة.


لن أغضب من الورق المتنامي في سلّة المهملات بجانب مكتبي.

القاهرة مدينة خُلقت كي نتوه فيها!

العاصمة ليست نقيضًا، وإنّما فخٌّ بطعمٍ مغاير.
هناك… لن تختنقي، بل ستلهثين دون توقّف، دون نجاة.
قلتها سابقًا وأكرّرها: “القاهرة مدينة خُلقت كي نتوه فيها!”
لا وقت للتأمّل أو عدّ الخطى في العاصمة؛ الأفق مفتوح أكثر ممّا يُحتمل.

***

ولأن الكتابة وشْم جميل، أحب أن يراه الآخرون، أكتب دون استئذان.

يضعني القلم عند حافّة صالحة للتأمل.

فإن ضاقت بي الدنيا، كتبت.
وإن جادت بإلهامها، كتبت.
وإن قذفتني خارج رحمها، كتبت.
وإن هاج عقلي وماج، كتبت.
وإن أردتُ دفن نفسي حيّة، كتبت.
وإن جنّت روحي وعبثت بصوابي الأحلام، كتبت.

27 ديسمبر 2025

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع