وليد خيري
تبدو “اتجاه عكسي” رواية تفكر بنفسها وهي تكتب؛ نصا يقاوم الامتثال لأطر السرد الواقعي التقليدي، ويختار الرسائل إلى صديقة قالبا حميميا يتيح للبطلة أن تقول ما يتعذر قوله في المجال الاجتماعي المراقب. من أول عتبة سردية سنجد اللغة رائقة، دافئة الإيقاع، منصتة للتفاصيل الصغيرة (لون الشعر البنفسجي، طقس السفر الخاطف إلى الإسكندرية، الأغنيات التي تشارك الحياة إيقاعها)، لكنها في العمق تنقب في علاقة المرأة بجسدها، بذاكرتها، بأمومتها، وبالعالم الرقمي الذي يضاعف حضور العين الاجتماعية ويؤبد وحدتها في آن. هنا تتجول الرواية بين نقد نسوي للبنى الأخلاقية السائدة وتفكيك نفساني لخبرة العزلة والذنب الأمومي والخوف المتوارث، من دون أن تفقد شفافيتها الأسلوبية أو دفء صوتها.
اتجاه عكسي ليس مجرد عنوان للرواية ولا لافتة؛ إنه وعد بسير ضد التيار: ضد ما تريده الأم، وما تشتهيه الجماعة، وما تمليه الأعراف، وما يقترحه الزوج المسافر ليترقى في وظيفته ويجني المال الوفير. البطلة تعلن انحيازها في تفاصيل ملموسة: قص شعرها وصبغه البنفسجي (فعل رمزي لامتلاك الجسد وإعادة تعريف الأنوثة خارج ذوق العائلة)، وردها غير المهادن على سؤال السفر إلى دولة عربية، ثم قرارها أن تنشئ مساحتها الخاصة عبر مراسلة صديقة وسرد ما لم يسمح بقوله طويلا. هذا الاتجاه العكسي ليس صخبا بل ممانعة هادئة: تعلم الوقوف في منطقة رمادية لتنجو، ثم مراقبة هذه الرمادية نفسها ونقدها وإعادة التفاوض معها. فالاعتراض هنا ليس خطابة، بل تشكل تدريجي للذات داخل اليومي، حيث تتخذ الأشياء الصغيرة: قصة الشعر-رحلة الياسمين-لقطة فيسبوك-رسالة واتساب معنى أخلاقيا. يمكن قراءة العنوان على أنه إعلان خروج من الأنوثة المؤسسة إلى خبرة فردية للأمومة والذات؛ هو رفض لأن تحال المرأة إلى صورة تخييلية للآخر (نظرة الأم/الزوج/الجماعة)، وسعي إلى إقامة علاقة أكثر إنصافا مع الأنا الجسدية ومع الأم الداخلية (شبح الأم الحاكمة الذي تعيد البطلة مساءلته). كل ذلك عبر سرد لا يرفع شعارات، بل يجرب طريقة عيش بديلة.
شكل المراسلات: من كتابة الاعتراف إلى أخوة النساء
تكتب البطلة «صديقتي..» في رؤوس الفصول؛ التوجه إلى أخت صديقة هو قلب للهرمية الذكورية التي جعلت الرواية العربية طويلا محكيا عن «المرأة-موضوع» من زاوية الراوي العليم أو الرجل المحبوب/القاسي. الرسائل هنا تعيد السلطة إلى المرسلة: هي التي تقرر المشهد الذي ستفتحه الآن، أغنية تصاحب الفجر، ذكرى على فيسبوك، نوبة بكاء، مشهد من فيلم جميلة بوحريد، حوار مع ابنتها عن الطمث، نقاش مع ابنها عن موت النجوم. هذا التقطيع الرسائلي ينتج إيقاعا اعترافيا ويعطي للنص نبرة اليومي المتأمل، ويؤسس ما يسميه النقد النسوي ثقافة النساء: حيث المعرفة تنتج من سياق المعيشة لا من ميتافيزيقا بعيدة. إنه أيضا شكل كتابة الجسد: حين يمر القول عبر اللحم الحي-الحيض، الرغبات، الرهاب، أثر اللمس، فرحة الرائحة (الياسمين)، ارتباك البنت أمام جسدها، وفزع الأم من هشاشة الابن. بهذا المعنى، الرسالة ليست قالبا محايدا؛ إنها أطروحة جمالية تعيد الاعتبار لتجربة تعد هامشية في خطاب الثقافة الرسمي: تفاصيل الأمومة وشغل البيت، وتوترات التربية، وضجر المدينة وحذر الشارع، ويوميات المرأة في ظل وباء أغلق العالم. يضاعف هذا الشكل الرسائلي أثره بتقنية المرايا الرقمية: ذاكرة فيسبوك، غرف كلوب هاوس، رسائل واتساب؛ أدوات تعيد تشكيل ذاكرتنا وتعرضها لعين جماعية لا تكف عن التعليق. البطلة تتأرجح بين الحاجة إلى الاعتزال والحاجة إلى الاعتراف: جئت لأسمع، تكتب على حسابها، لكنها تدري أن الاستماع نفسه نوع من الحضور. هذا التأرجح آلية دفاع بين الانسحاب والتماس، وهو ما يصفه النقد النفسي حين يربط الحزن الأمومي بعطالة اللغة أو انفجارها؛ في الرواية لا تصاب اللغة بالخرس ولا بالهستيريا، بل تتخفف وتلين كي تسمح للذات بأن تنجو من فرط المطالب.
رحلة الخروج: من سكون الرمادي إلى قرار الانعتاق
تمضي بطلة اتجاه عكسي في مسار تطور نفسي واجتماعي مقنع. بذرة التحول الأولى تبدأ من الجسد: قصة الشعر، اللون البنفسجي، دهشة الأم وجملتها التأديبية: الناس هتقول علينا إيه؟؛ هنا يتشكل خط القطيعة مع سلطة الخجل التي تتوارثها الأمهات، فيجري إعادة تعريف الأنوثة: ليست سمعة العائلة، بل تملك الصورة وتدبير الجسد وفق رغبة صاحبته. ومن هنا تنتقل الرواية إلى البيت: إعادة التفاوض حول سفر الزوج وعمله، ورفض صيغة أن يبقى صورة بعيدة، والتحرك إلى الإسكندرية طلبا لمسافة نفسية من نوبة البكاء والبيت الذي يغلق عليك. هذه الحركة-ولو كانت خاطفة- هي إعلان قدرة على أخذ قرار صعب، لا عبر كسر صاخب بل بتغيير هادئ في أنماط العيش. العقدة النفسية المركزية هي الوحدة والذنب الأمومي: أريد أن أتكور، تقول البطلة، وتقر بأن فيسبوك ودوامة التعليقات أرهقت أعصابها. هنا تظهر بوضوح ثنائية أم كافية بالقدر المناسب وأم منهكة تحرس أطفالها من الشاشات وتخشى أن تفقدهم لحياة افتراضية. واللافت أن الرواية لا تقدم أمومة معقمة؛ إنها تسمح للأم أن تبكي في حضن ابنها وأن تعترف بفشل اتفاقات الصباح بعد وعود المساء. بهذا تخلع عن الأمومة صورة الملائكية الميتة، وتعيدها إلى إنسان يتعلم مع أولاده ويخطئ ويقسو ويعتذر. هذا التحويل -من المؤسسة الأمومية إلى خبرة الأمومة- جزء من الاتجاه العكسي الذي تعلنه الرواية. علاقة البطلة بالأم تكتب على مستوى أعمق: الأم الواقعية التي تراقب منشورات ابنتها وتطلب حذف ما يمس الدين، والأم الرمزية (الضمير/الناموس) التي تسكن داخلها وتشعرها بالذنب. النضج يقتضي الاعتراف المتبادل بدل علاقة السيطرة؛ البطلة تتعلم أن تسمع أمها على وضع الصامت، عبارة لافتة في النص تحيل إلى تدبير حدود الذات: الإصغاء دون ابتلاع، وعدم الانسحاق تحت التوافق القسري. وفي حوار آخر مع أختها وابنتها، تمارس البطلة الوجه الآخر من الاعتراف المتبادل: تمكين ابنتها من تسمية تغيرات الجسد بلا فضيحة، والحديث عن الطمث كمعجزة شهرية لا كعيب مهدر، في لفتة تربوية تنقلنا من تكرار جرح الأم إلى التئامه. هكذا تتحول الأم من حارسة ناموس إلى مرافقة نمو؛ هذا التحول هو ذروة النمو الشخصي للشخصية.
الأمومة في مرآة الابن والابنة: المعرفة كعاطفة
لقطات الرواية مع ياسين (الابن) تصاغ بحنان معرفي: أم تنقب معه في علم الفلك، وتحول الدرس العلمي إلى دراما اكتشاف تلهب الخيال، لكنها في الوقت نفسه تفاوض على حدود الشاشات والألعاب. هنا يظهر الاتجاه العكسي تربويا: ليس تحريما بل صناعة بدائل (قراءة، تصوير، رحلة الياسمين فجرا)، وفتح خيال للكون واتساعه كي لا يتقوقع الطفل في نافذة واحدة. هذه التربية المعرفية هي شكل من الرعاية: المعرفة هنا ليست تكديس معلومات، بل تقنية للعاطفة تهذب القسوة وتواسي الوحدة، وتتيح للابن أن يسأل أسئلة الخلق والحساب بلا ترهيب. مع مسك (الابنة) يشتغل النص على كشف المحظور: درس منزلي في الثقافة الجنسية، حديث عن الطمث في لغة تشرعن الجسد وتصادقه، نقاش عن لوحات فان جوخ والانتحار بوصفه سؤالا وجوديا لا إثارة صحفية، ثم موقف حازم من المدرسة حين تتسرب معرفة غير ملائمة بالعنف الفج. هنا يمزج السرد بين حنان الأم ووضوح الخطاب؛ فالتربية ليست رقابة بل تسمية للأشياء بأسمائها، ولا تمريرا للصمت الموروث بل إبداله بلغة تحمي. في هذا المستوى، تعيد الرواية صياغة الوصاية بوصفها عقد ثقة لا جدارا.
المدينة والأغنية وفيسبوك: الاقتصاد العاطفي للنص
مدينة الرواية (القاهرة-وسط البلد-الزمالك-الإسكندرية) تتنفس مع اللغة: المقاهي، الممرات، العودة قبل ساعة من الموعد خوفا من الليل، شوارع تمشيها البطلة وهي تراجع زمنها. هذه الخلفية ليست ديكورا؛ إنها اقتصاد عاطفي: المدينة مصدر توتر وحرية معا، تمنح قابلية اللقاء (الصديقة التي ظهرت بعد خمس سنوات افتراضية) وتفضح هشاشة العيش (الحذر، الفقد، الجائحة). جوار المدينة هناك أرشيف الأغنية: ماجدة الرومي، فيروز، كارول سماحة، كاظم؛ الأغنية هنا أداة تخييل مشاعري، تترجم ما تعجز اللغة المحاججة عن قوله. استدعاء الأغنية يحيل إلى النبرة قبل-اللغوية، حيث الصوت نفسه يعيد تركيب الهوية. كذلك تفعل ذكريات فيسبوك؛ إنها مرايا تعيد على البطلة صورها فتجلدها أو تضمّدها؛ نص كامل يكتب عن سؤال: أأمسح تاريخي أم أتركه ليبقيني؟؛ وهو سؤال حديث ومر في آن، تتهادى فيه الذات بين الحق في النسيان والحق في الذاكرة.
من الابنة-الزوجة إلى المرأة-الذات
تؤسس الرواية جدلا جميلا بين الابنة التي تريد إرضاء الأم والمرأة التي تريد إرضاء ذاتها. والبطلة هنا تصير امرأة عبر سلسلة قرارات صغيرة: لون شعر، رفض لحل وظيفي سهل على حساب العائلة، درس جنسي للابنة بلا وصم، مناقشة لأسئلة الابن الكبرى بلا تسطيح، مزيد من الصراحة مع الصديقة، ومزيد من خفض الصوت الداخلي الذي يجلدها. إنها تظهر توتر الرغبات المبررة: حق الزوج في الإنجاز، وحقها في ألا تتحول حياتهما إلى صورة بعيدة، وحق الأطفال في حضور غير مبتسر. الحكم الأخلاقي لا يأتي جاهزا؛ البلاغة هنا بلاغة الموازنة، والنتيجة أن القارئ لا يجد جلادا بل بشرا يتعلمون العيش. هذا من مكاسب الرؤية النسوية الناضجة: لا تؤدلج التجربة النسوية ولا تضخم لغتها؛ بل تؤنسنها، وهو أصعب. الزمن العام، وباء كورونا، ليس خلفية؛ إنه معمل لتجربة الذات: يثبت للبطلة أن ثمن الحرية غال وأن الوحدة تصنع لغتها الطرية حين تتاح لها أخوة النساء عبر الرسائل. وعلى رغم طبقات الإنهاك، تنجح البطلة في صنع طقوس صغيرة للنجاة (رحلة الياسمين، صورة الفجر، تدريب الابن على العرض المدرسي، لعبة الأسئلة قبل النوم، الاستسلام المختار لدمعة في حضن الطفل). هذا الاقتصاد الصغير للفرح يبنى ضد خطاب الإنتاجية الذي يجلد الأمهات، وضد خطاب التضحية الذي يقدس آلامهن؛ الرواية لا تستجدي التعاطف، بل تعرض كرامة العادي على نحو يذكر بما تفعله السرديات النسوية المعاصرة عالميا.
رواية اتجاه عكسي كـ تشكيل أمومي للذات
تنجح نسرين البخشونجي في تقديم رواية تصلح علاقتنا بالكلمات التي نصف بها خبرة الأمومة والأنوثة. هنا لا تروى البطولة عبر حدث جلل، بل عبر تغييرات دقيقة متراكمة، حيث تتعلم البطلة كيف تعيش بين الرغبة والواجب، بين صوت الأم وحق الجسد، بين حماية الأطفال وإطلاقهم، بين الانسحاب من العالم والظهور فيه بشروطها. النص هو صوغ مقنع لأخلاقيات العناية ومعرفة الذات، هو حكاية تعاف من وحدة مزمنة إلى علاقة أفضل بالذات والآخرين، هو اقتراح لهندسة سردية تعطي للمراسلة مكانتها القادرة على حمل الرواية إلى حيث لا يقدر السرد الخطي أن يصل. تخرج القارئة/القارئ من اتجاه عكسي وقد أضيف إلى مفرداته قليل من الياسمين فجرا، وموسيقى فيروز وماجدة، ووضع صامت يستعمل بحكمة، وصحبة صديقة تكتب لها الرسائل كي يستمر الكلام حين تصير الحياة ثقيلة على الصدر. لا نحتاج هنا إلى نهايات حاسمة؛ يكفي أن البطلة تعلمت أن تختار، وأن تعرف أن الحب للأبناء معرفة أيضا، وأن طريق المرأة إلى ذاتها يمر من اللغة- لغة أنيقة، رقيقة، عميقة، مثل هذه الرواية.














