يمكنك الذهاب بعيدًا إن أردت

مروان ياسين الدليمي

1

قال لي الباب:

“يمكنك الذهاب بعيدًا إن أردت

لكن لا تنسَ أن المفتاح يبكي كلّما خرجت”  .

 

كان في قلبي سلّمٌ صدئ

ينزلني إلى ذكرياتٍ لم أعشها.

فيه درجٌ يشهق

وآخر يتثاءب كسجينٍ طويل النوم.

الحنين

ذاك الحيوان الأليف الذي يعوي حين أغلق النافذة.

 

حين خطوتُ

صرخت الأرض تحتي:

“خفّف وزنك من الذكريات، إنها لا تسير، بل تُربك الاتجاهات”  .

ومع ذلك

مشيت تاركا ظلي

يلهث ككلبٍ يبحث عن صاحبه.

 

الشمس تتدلّى من حبل غسيلٍ فوق رأسي

تقطر منها رائحة ثياب أمي

وأغنية كانت تدندن بها

وهي تفرز الفصول في صندوق خشبيّ.

 

كلّ خطوةٍ

كنتُ أسمع فيها المطريضحك

كأنه طفلٌ  يركضُ على زجاج الذاكرة.

أحيانًا

كنت أرى الغيم يلوّح لي

بمناديل نسيتها في جيوب الليل.

 

الرغبة

كانت تقودني كما يقود الكفيفَ صوته.

كلّما تقدّمت

صارت الأشجار تتراجع

والطرقات تسعل غبارًا مألوفًا

كأنّها ترفض نسياني.

 

سمعتُ العتمة تخاطب النوافذ:

 “إنه يمشي… لكنه لا يعرف إلى أين يحنّ ” .

ورأيتُ وجهي ينظر إليّ من حفرةٍ ترتعش فيها الكلمات التي لم أقلها.

أنا لا أعرف البعيد

لكنّي أستطيع تذوّق طعمه في فمي

فيه مرارة تشبه ابتسامة تخرج من فمٍ لا يؤمن بشيء.

 

2

لم يكن الطريق مستقيماً

كان أفعى نائمة في أحشاء الخريطة.

كلما حاولتُ أن أفهم

غيّر جلده

وتثاءب بلغة لا أعرفها.

 

الأرصفة تضع أحذيتها القديمة على كتفي

تقول:

“لا أحد يصل بخفّين نظيفين”    .

والريح تمرّ بي  كما تمرّ بكتابٍ ممزق

تتصفّحه ثم تتركه مفتوحًا على صفحةٍ بيضاء.

 

ثيابي بدأت تتحول إلى ذاكرة

تفوح منها رائحة الرحيل

كأن قميصي

يحمل آثار وداعات لم تحدث.

 

الوقت لا يرافقني

إنه يراقبني من بعيد

كعاشقٍ سابق يرى من أحبّه يرقص مع الفراغ .

 

كل شيءٍ حولي ينبض بإشاراتٍ لا تُقال:

السياج يلمّح بلونه

الحصى يهمس بأخطاء خطواتي

وحتى الغبار

يترك لي رموزًا على الكاحلين

كأنه يريد أن يعلّمني طريقةً قديمة في القراءة.

 

كنتُ أضحك

ليس لأن في الأمر شيئًا مضحكًا

بل لأن الضحك أحيانًا

هو الطريقة الوحيدة لترويض الوحشة.

 

أعمدة الإنارة تميل نحوي

كأنها تنصت

أو تشتهي أن تُغلق هي الأخرى وتغفو.

 

لم أعد أعرف:

هل أنا من يسير

أم أن الطريق

هو من يجرّني كعربةٍ متعبة

محمّلةٍ بأحلامٍ أكلها الصدأ.

 

3

أعترف…

أحيانًا كنتُ أركض لا لأصل

بل لأتخلّص من أثر أقدامي على التراب.

كنتُ أظنني أهرب من شيء

حتى اكتشفت أن الشيء الوحيد الذي يلاحقني

هو السؤال.

 

الجبال ترمقني بعينٍ واحدة

عينٌ من حجرٍ قديم

لا تحكم

لا ترحم

فقط… تشهد.

 

السماء ليست سماء.

إنها وجهٌ هائلٌ مقلوبٌ

ينظر إليّ كمن نسي اسم ابنه.

أُلوّح لها فتبعث إليّ سحابةً مشقوقة

تقول لي بلغة المطر:

“لا تعُد،

فالعودة ليست بابًا بل جدارًا”  .

 

كلّ ما ظننته من الجمادات

تحرّك:

العصا ارتجفت بين يديّ كطائرٍ فقد جناحيه

الحقيبة تنهدت

وحتى حذائي قال لي بنعلٍ مثقوب:

“لن أحتمل أكثر من هذا”  .

 

أنا الآن بعيد

بدرجةٍ تجعلني أنسى وجهي

وأتذكّر صوت أبي وهو ينادي شجرةَ التين باسم أمي.

 

هنا

حيث لا أحد

يسعني أن أكون أنا

دون مرآة

دون تعريف

دون لافتة تقول: “عد من حيث أتيت”  .

 

أنا ظلٌّ خرج من جسده

وبحث عن حياةٍ تخصّه وحده.

 

 

 

 

شاعر ورورائي وناقد عراقي. من أعماله: رفات القطيعة، منعطف الوقت، اكتشاف الحب ـ اوراق من مدونتي الشخصية، علامات سردية روايات…

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع