محمود عماد
تمثل صناعة فيلم سيرة غيرية حملا ثقيلا على صناعه، بداية من كاتب السيناريو والحوار، مرورا بالمخرج، وصولا إلى الممثلين.
وما يمنح تجربة فيلم السيرة الغيرية هذا الثقل، هو فكرة تجسيد شخصية عامة كانت، بشكل ما، ملء السمع والبصر، وامتلكت قدرا كبيرا من الشهرة والتواجد، وارتبط بها الناس وجدانيًا.
في الأغلب، تكون الشخصية المتناولة محبوبة، ولها صورة خاصة في أذهان جمهورها، وتختلف هذه الصورة ودرجة الحب من شخصية إلى أخرى، وهو ما نلمسه بوضوح من حجم الزخم المصاحب للعمل بعد إنتاجه، ما بين هجوم حاد أو مدح مفرط.
وبالحديث عن هذا الحمل، لا يمكننا إنكار أن تجسيد حياة الست أم كلثوم هو ثقل لا يضاهيه ثقل آخر. فأم كلثوم ليست مجرد مطربة أو فنانة، إنما أيقونة بكل المقاييس؛ هي “كوكب الشرق”، الرمز الذي يعشقه المصريون والعرب، بل ويمكننا القول كل من عرفها أو سمع عنها في هذا العالم.
كون أم كلثوم شخصية استثنائية جعل تجسيد حياتها أمرًا شبه مفروض، رغم الشائكية التي تعتريه، وقد تزاحمت المحاولات لتمثيل حياة ثومة سواء في الأدب والصحافة، أو في الدراما والسينما، ويبقى مسلسل “أم كلثوم” هو العمل الأشهر والأكثر اكتمالا في تجسيد سيرتها. المسلسل من كتابة محفوظ عبد الرحمن، وإخراج إنعام محمد علي، وبطولة صابرين، وآخرين، وقد حقق، ولا يزال نجاحًا باهرًا.
من هذه المنطقة الملتبسة انطلق أحدث مشاريع محاولة تجسيد حياة أم كلثوم، وهذه المرة على الشاشة الكبيرة، ورغم أنها ليست المحاولة السينمائية الأولى، إذ سبقها فيلم “كوكب الشرق” للمخرج محمد فاضل وبطولة فردوس عبد الحميد، والذي باء بفشل كبير، فإن المحاولة الجديدة تبدو الأكثر عصرية.
نحن هنا نتحدث عن فيلم “الست”، كتابة أحمد مراد، إخراج مروان حامد، وبطولة منى زكي، إلى جانب عدد كبير من النجوم الذين شاركوا كضيوف شرف.
مدخل الفيلم وعتبته الأولى تأتي من قمة السلم أم كلثوم في حفلها الشهير على مسرح الأولمبيا بباريس. هنا نراها في قمة مجدها، وسط محبين قادمين من كل حدب وصوب، بلغات وثقافات وأديان مختلفة.
حتى الجالية اليهودية حضرت ليستمع أفرادها إلى الصوت الكلثومي، رغم التحذيرات التي قدمتها لهم إسرائيل معللة ذلك بأن إيرادات الحفل ستذهب إلى المجهود الحربي لمحاربة الشعب اليهودي.
في مشهد الافتتاح، وبعد الهتاف المزلزل للست، نسمع الهتاف ضد إسرائيل ومن أجل الحرب. يتدخل مدير المسرح كوكاتريس في واقعة شهيرة ليشتكي لها، لكنها تفاجئه برفض كلماته، وتهدده بعدم الغناء، فارضة شروطها كاملة، في دلالة واضحة على القوة التي تمتلكها أم كلثوم في هذه اللحظة.
تصعد أم كلثوم إلى خشبة المسرح، تضبط بعض التفاصيل قبل بداية الحفل، وتنظر من خلف الستار إلى الجمهور المتلهف، وهنا نلحظ الاجتهاد الكبير من منى زكي في محاولة تقليد أم كلثوم، ومحاولة استنساخ صوتها، كما يمكن ملاحظة أن المكياج والملابس، في هذه المرحلة العمرية، جاءا إلى حد جيد متسقين مع الصورة الكلثومية.
وسط هذا المشهد المهيب، وبين الهتافات والكادرات التي تؤكد أننا أمام لحظة ذروة، يهجم شخص ما على الست، فتقع أرضًا في مشهد شهير للغاية. من هنا يحدد الفيلم نقطة انطلاقه، تلك اللحظة الأيقونية التي تلوثت بالسقوط.
يعتمد الفيلم بعد ذلك على العودة إلى الماضي عبر تقنية الفلاش باك المتعدد والمتكرر، ليس في خط سردي واحد، بل في تداع حر، كأننا دخلنا رأس أم كلثوم في تلك اللحظة، وأصبحنا جزءا من دورة تفكيرها وذكرياتها.
ورغم أننا لو تفحصنا هذه اللحظة جيدا، فلن نجدها لحظة انكسار على الإطلاق، بل لحظة تؤكد الأسطورة؛ لأن من أسقط أم كلثوم كان محبا كبيرا لها، ولأنها لم تقع بسبب مرض أو ضعف، لكن صناع الفيلم قرروا أن تكون هذه اللحظة هي مدخلهم السردي.
نعود في الأحداث إلى الطفلة أم كلثوم، التي يأخذها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي يؤدي دوره سيد رجب، إلى الأفراح والموالد للإنشاد والكسب، في هيئة ملابس الأولاد التي يلبسها إياها، في محو لأنوثتها.
هنا يبدأ الفيلم في تقديم العلاقة الأولى في حياة الست بشكل غير متعارف عليه. فالسردية الشائعة لعلاقة أم كلثوم بوالدها تقوم على الحميمية والدعم، لكن الفيلم يقرر سلوك الطريق الآخر، ويجعل هذه العلاقة ملتبسة.
تتأكد هذه الفكرة مع رحلة أم كلثوم إلى القاهرة، حيث يذهب الأب سعيا وراء المال، ويمارس سلطة شبه مطلقة على ابنته. ثم تنتصر أم كلثوم لاحقا على سلطة الأب، فتخلع ملابس الرجال، وتتحكم في تفاصيل حياتها، بل وتفرض سلطتها عليه.
يحاول الفيلم الاشتباك مع العلاقة الأهم في حياة كوكب الشرق، انطلاقا من تصور أن ذلك سيؤدي إلى إظهار الجانب الإنساني في حياتها، وهو توجه فني مشروع، لكن هل نجح الفيلم في ذلك؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه بسهولة.
مع تطور الأحداث، يواصل صناع العمل محاولات الأنسنة عبر تتبع العلاقات العاطفية في حياة أم كلثوم، لكن السرد لا يغوص في التفاصيل، ويكتفي بعرض شكلي لتلك العلاقات دون تعمق أو إبراز حقيقي.
فعلاقتها بالشاعر الأبرز في مسيرتها الفنية، أحمد رامي، وحبه الكبير لها، الذي تجلى في القصائد التي كتبها، تمر مرور الكرام، من خلال مشهد واحد تصد فيه أم كلثوم رامي، بحجة أن زواج الشاعر من ملهمته سيؤدي إلى انهيار العلاقة الفنية بينهما.
وبشكل أكثر هامشية، يمر الفيلم على علاقتها بالقصبجي الذي لعب دوره تامر نبيل، وفي صورة كلاشيهية على علاقتها بخال الملك، الذي لعب دوره كريم عبد العزيز كضيف شرف، ورغم كاريزما عبد العزيز، لم تتجاوز مشاهده بضع لقطات لابتسامات عابرة.
يبدو تناول علاقتها بمحمود الشريف، والذي جسد دوره صدقي صخر، هو الأفضل نسبيا، خاصة في الجزء الخاص بتصريحها الشهير بأنها لو طلب منها ترك الغناء لفعلت، وما تلا ذلك التصريح من جدل، والذي جُسد بشكل جيد في الفيلم.
لكن مشهد الشجار بين القصبجي والشريف، وصولا إلى إطلاق النار والذهاب إلى القسم، افتقد العمق والمنطق الدرامي، خاصة مشهد القسم والضابط الذي لعب دوره أحمد حلمي، حيث بدا كأنه دخيل على الفيلم.
عرض قصة زواج أم كلثوم من طبيبها المعالج حسن الحفناوي، الذي لعب دوره أحمد أمين، جاء في إطار يمكن وصفه بالعادي؛ لا سيئ ولا متعمق، وهي إشكالية تتكرر في أكثر من أداة داخل العمل.
من العلاقات العاطفية إلى الأزمات الصحية، جاء تناول المرض بشكل جيد، ونجح الفيلم في إظهار معاناة أم كلثوم الإنسانية، لكن مشهد رفضها الذهاب إلى المستشفى لتلقي العلاج بدا مكتوبا بروح زعيم عصابة أكثر منه بروح المطربة التي نعرفها.
في رحلته المستمرة للأنسنة، ركز الفيلم على فكرة الوحدة في حياة الست، وصور أم كلثوم نجمة معزولة في برج عاجي، وقدم بيتها كقبر موحش.
ورغم أن حياة أم كلثوم لم تكن بكل تأكيد وردية على الدوام، وبالطبع مثل جميع البشر، وخاصة المبدعين والفنانين عانت من مشاكل وصعاب، ولكن تصوير بيتها بهذه الصورة لم يكن موفقا؛ فبيت كوكب الشرق كان يعج بالحياة، وكان شاهدا أساسيا على مسيرتها الفنية، حيث دارت نقاشات، وأُقيمت بروفات، والتقت فيه بكل شركاء نجاحها.
بما أننا تحدثنا عن المعالجة والسيناريو، فيجب بالتأكيد الحديث عن الحوار، والذي جاء مقبولا في مواضع عديدة، لكنه في لحظات مهمة كان مباشرا ومصرحا أكثر من اللازم، لا يترك للصورة فرصة التعبير، فضلا عن أن لغته بدت أحيانا غير مناسبة للعصر، وهو ما يعكس بوضوح لغة الكاتب وتوجهه.
إخراجيا، يقدم مروان حامد ما يبرع فيه منذ سنوات، وهو صنع صورة جميلة ومغرية، قادرة على إبهار المشاهد، لكن تقنية السرد المتقطع، رغم جاذبيتها في البداية، حولت الفيلم مع الوقت إلى مشاهد متجاورة بلا تعمق حقيقي.
واحدة من أكبر إشكاليات الفيلم أن صناعه قرروا عرض حياة أم كلثوم بالكامل، بدل التركيز على مرحلة أو فترة زمنية محددة، وهو أمر شبه مستحيل في فيلم واحد، مهما طال زمنه. هذه الخطيئة أضاعت تقنية السرد نفسها، وأثقلت العمل، وهي مسؤولية إخراجية بالأساس.
وبسبب محاولة عرض حياة الست بشكل كامل، فهنا سقطة أخرى؛ وهي أن الفيلم لم يذكر الكثير من الشخصيات التي ارتبطت بأم كلثوم فنيا، وصنعت معها أهم نجاحاتها؛ مثل رياض السنباطي صاحب العدد الأكبر من ألحان أغانيها، وبليغ حمدي مجدد الأغنية الكلثومية، ومحمد عبد الوهاب صاحب العلاقة المركبة مع الست.
وللمفارقة، استخدم حامد أغنيتي “ألف ليلة وليلة” و”أنت عمري” في الكثير من محطات الفيلم، ومع ذلك لم يذكرهما العمل، ولو خطأً.
يمكن أن نتقبل عدم ذكر بعض الأحداث والشخصيات في حياة أم كلثوم، ولكن ذلك يكون برؤية فنية عندما يختار صناع الفيلم أن يلقوا الضوء على مشهد معين في حياة الست؛ ولو حدث هذا لأصبح اختيارا فنيا ذكيا، لكنه لم يكن.
مروان حامد بارع في توظيف التقنيات، لكنه يفتقد هنا على الأقل الرؤية الكلية، هو منفذ ماهر أكثر منه صاحب رؤية. الكادرات جميلة، والألوان موظفة للإبهار، لا للتكوين الدلالي، وعندما كانت الصورة تنجح في التعبير، كان الحوار يتدخل لإفسادها.
استخدام الكلوز شوت على وجه منى زكي كان محاولة لإضفاء بعد إنساني، وقد نجحت التقنية في تقريب المشاهد من الشخصية، خاصة في لحظات الانبهار الأولى، أو لحظات الفقد.
كما برع حامد في توظيف أغاني أم كلثوم بتسجيلات نقية، تدخل المشاهد في حالة من الطرب، وكأنه يحضر حفلة حقيقية للست.
تمثيليًا، منى زكي اجتهدت بشكل واضح، لكنها وقعت في فخ التقليد. لم يكن المطلوب استنساخ أم كلثوم، بل الإمساك بروحها، وهو ما نجحت فيه أحيانا وأخفقت فيه أحيانًا أخرى.
المكياج والملابس في المراحل المتقدمة من عمر الست كانا أفضل حالًا من المراحل المبكرة، وإن لم يكونا منفّرين.
بقية فريق التمثيل ظهروا كضيوف شرف يمنحون الفيلم ثقلا اسميا. تألق سيد رجب في دوره المكتوب له، واقترب محمد فراج من روح أحمد رامي، لكن ضيق المساحة منعه من التعمق.
أما عمرو سعد في دور جمال عبد الناصر، فظهر بشكل هامشي، محاولا الاقتراب من لغة الجسد في مشاهد قليلة جدًا.
في النهاية، نحن أمام محاولة حقيقية لأنسنة أسطورة مثل أم كلثوم، لكنها محاولة ضلت طريقها، رغم توافر كل مقومات النجاح من إنتاج سخي، ومخرج صاحب صورة مميزة، وكاتب جماهيري، وطاقم تمثيل يضم عددا كبيرا من نجوم مصر.
والنتيجة في النهاية فيلم لم يقدم جديدا على المستوى الفني، ولم يضف رؤية مختلفة لكوكب الشرق، فاكتفى بمشاهد متفرقة من مسيرة طويلة، بلا روح حقيقية.
ومع ذلك، لا يخلو الفيلم من إيجابيات، أهمها الحالة الفنية اللطيفة التي يخلقها؛ فقد تخرج من المشاهدة مستمتعًا، لكنك سرعان ما تكتشف حجم الفرص الضائعة، وتدرك أن فيلمًا أيقونيا كان ممكنا، لكن الاستسهال أضاع الطريق.









