محسن يونس
تعد مجموعة “الشكل العادي للجنون… ويوميات أخرى” للكاتب ممدوح رزق (2024) عملاً أدبياً يمزج بين السرد القصصي والتدوين الذاتي (اليوميات)، حيث تسقط الحدود بين الخيال والواقع الشخصي للكاتب.
علينا أن نوضح سبب ما ذهبنا إليه فى السطور السابقة، فنجد أن المجموعة القصصية تتخذ طابعاً “هجينًا”، فهي ليست قصصاً قصيرة بالمعنى التقليدي فحسب، بل هي أقرب إلى “يوميات تأملية” وتدريبات سردية مشبعة بالذاتية. يعتمد الكاتب على تأريخ النصوص (مثل تواريخ 2013 و2018) مما يضفي عليها صبغة توثيقية لصراعاته الداخلية وهواجسه الوجودية. ولنكن أكثر تحديدا فنقول إن الجنون كفعل تحرر داخلي، الذى يطرحه العنوان “الشكل العادي للجنون” يحمل مفارقة، فالجنون هنا ليس حالة مرضية، بل هو ذلك “الشخص القديم” الذي يحاول تحطيم الجدار الصخري للخروج للحياة مرة أخرى. الكاتب يرى في هذا “الجنون” رغبة شرسة في استرداد الذات من الأسر، وتصويب الكراهية نحو عالم يراه مليئاً بالأقنعة المستفزة.
ثم نجد أنفسنا أمام ثنائية الموت والحياة تشغل حيزا كبيرا فى نصوص المجموعة، حيث يشغل الموت حيزاً كبيراً، خاصة من خلال سردية وفاة شقيقه “مدحت”. يحلل الكاتب لحظة الموت المفاجئة، ويسائل فكرة “ابن الموت”، وكيف يتحول الموت من مجرد احتمال إلى “غدر متوقع” يفسد أبسط مباهج الحياة. نكتشف أيضا أننا إزاء كتابة كأنها فعل انتقام، فهى فى النصوص تظهر كأداة ” لتصفية الحسابات المؤلمة مع السذاجة، ومع الآخرين ومع القدر”، هي وسيلة للانتقام من الحياة والموت معاً، ومحاولة للسيطرة على “الانفجار الفوضوي” الذي يهدد الذات.
النصوص أيضا تمسحها مسحة القلق الوجودي واليومي: فممدوح رزق يمزج بين القلق الميتافيزيقي ( مثل أسطورة سيزيف وخساراته المتكررة ) وبين القلق اليومي البسيط، مثل خوفه على ابنته “ملك” من واقع المدرسة والحياة في مصر، واصفاً هذا الواقع بأنه “قتل بتنويعات طائشة”.
خاصية أخرى تغلب على معظم ” شغل ” الكاتب، وخاصة هذه المجموعة هى المونولوج الداخلي، فضمير المتكلم يهيمن على السرد، مما يجعل القارئ في مواجهة مباشرة مع اعترافات هذا الضمير وهشاشته، وتكتمل اللعبة أحياناً فى انتقاله إلى ضمير الغائب، ليخلق مسافة نقدية مع ذاته، واصفاً إياها بـ “ذلك الكائن”.
وسوف نجد هنا أيضا جانبا آخر من لغة ممدوح رزق التى يستخدمها فى إنشاء نصوصه، هذا الجانب يمكننا وصفه بشعرية اللغة، خاصة ما يتصل بالعدمية، فهو يستخدم من أجلها لغة حادة ومباشرة تميل إلى كشف المسكوت عنه، تتجلى ما ذكرناه توا فى نص ” لا تخف ” وهو يتناول الموت بيقين هادئ، وموجع في آن واحد: ” الحياة فقط هي التي معناها.. أنك ستموت “.. يا إلهى!!
يستخدم ممدوح أيضا فى سرديته التناص والميتاسرد ، فهو مثلا يشير إلى أعماله السابقة، ويزيد عليها فى إخبارنا كيف استقبلها قراءه على مواقع النت، مما يجعلنا نعى أننا بإزاء نصوص تجعل الكتابة موضوعا للكتابة ذاتها، تنفتح عدسته فى هذا الجانب لستدعى شخصيات من المسلسلات مثل ” أبو العلا البشرى ” وذلك ليعقد مقارنة بين الماضى والحاضر تمثل تآكل الطبقة المتوسطة فى الواقع المصرى، كما يجعل من الجدار الصخرى مثلا دليلا على العزلة والكبت، الذى يوقعه المجتمع والزمن أيضا على الفرد، يضاف إلى ذلك أيضا الرمزية المؤكدة فى الصدفة، فالكاتب يؤمن بسلطة الصدفة ” الخارجة عن الكتابة والألم والحياة “، ويرى فيها نظاماً خرافياً يحكم مصائر البشر.
وكما هو معروف عن ممدوح رزق غرامه بنقل ثقافته إلى نصوصه سواء المتعلقة بفلاسفة أو أدباء أو الفن التشكيلى والموسيقى، والمثيولوجيا الأجنبية عامة، كان تماهييه مع شخصية سيزيف معتبرا أن ” الخسارة السيزيفية ” هي القدر الحتمي، لكنها في عزلتها تمنح متعة وغرابة تتجاوز العالم الخارجي.
يمكننا النظر فى بنية النص فى هذه المجموعة، فنجده أى بنية النص يتراوح بين القصة واليوميات، هل نتجرـ على القول بأن هوية النصوص السردية تعتبر هجينة، ومما يساعدنا على وصفها هكذا هو أنها خارج القالب التقليدى، وتنفتح على اليوميات والتدوين الذاتى، خذ مثلا الكاتب يستخدم تواريخ معينة مثل ( 2013- 2018 ) موثقا لحظات شعورية بعينها، وكأن الكتابة هي مختبر حي لرصد التحولات النفسية، وهى كذلك بالفعل، وهذه التقنية تجعل القارئ شريكاً في “العملية الإبداعية” وفي “الحياة الشخصية” للكاتب، مما يكسر الحواجز بين الخيال والواقع…
ثم يواجهنا مفهوم “الجنون العادي” والذات المحبوسة، يطرح النص الافتتاحى للمجموعة فكرة مركزية وهي “الجدار الصخري” الذي يحبس الشخصية القديمة للكاتب ( ذات الشباب الأول )
والجنون كطاقة مكبوتة، نريد التأكيد على أن الجنون هنا ليس مرضاً عقلياً، بل هو “رغبة شرسة” في استرداد الذات من الأسر، وهو حالة من “الطيبه الغاضبة” التي تم كبتها بفعل القوانين الاجتماعية والزمن.
ثم الكتابة كأداة انتقام: تظهر الكتابة في النص كوسيلة لـ “تصفية الحسابات المؤلمة” مع القدر ومع الآخرين، وكخطة لتنظيم “الحروب العشوائية” الداخلية…
نتواجه أثناء القراءة مع الموت: “من المجرد إلى الفاجعة الشخصية”، نرى أن الموت يحتل مساحة واسعة في المجموعة، خاصة في نصوص “مدحت” و”Backspace”:، يشايعه سخرية قدرية والصدفة، فيربط الكاتب بين لحظة اكتمال تحميل أغنية لعبد الحليم حافظ (100%) وبين رنين الهاتف ليعلم بوفاة شقيقه. هو يرفض فكرة “الإرادة الغيبية” المرتبة، ويفضل تسميتها كــــ” مجموعة من الصدف ” التي تعطي شعوراً بالقهر…
ثم الموت الذي يُفسد الحياة، يتجلى هذا الوجع في تساؤل الكاتب كيف ألعب مع ابنتي السرير الطائر وأخي في القبر؟”. هنا يتحول الموت من فكرة فلسفية إلى “ذنب” يطارد أبسط لحظات السعادة اليومية…
ملاحظات أخرى على المجموعة وتقنياتها وتوجهها، نجد مثلا ما يسمى الندم الكتابي، يشير الكاتب إلى مفارقة مؤلمة، حيث كتب في نص “الشكل العادي للجنون” عن “تصويب الكراهية” و”عدم استثناء أقرب الناس”، ثم مات شقيقه بعدها بأيام، مما ولد لديه ندماً عابراً وهواجس بأن “العالم قارئ أحمق” استجاب لأمنيته حرفياً.
عودة منا إلى استجلاء ما فى النصوص من موتيفات متكررة، فسيزيف، يأتى مع الخسارة المتكررة، وتعبيرا عن حالته في مدينته المنصورة، حيث يرى في المشي والبحث عن وجوه جديدة “خسارة سيزيفية أخرى” لكنه يجد في هذه العزلة “متعة وغرابة” تفوق العوالم الخارجية…
نجد أيضا أن الريموت كنترول: في نص “Backspace”، يتحول جهاز التحكم في التلفاز إلى رمز للألفة المفقودة؛ شقيقه الذي كان يقلب القنوات رحل، وبقي الجهاز على المكتب بينما سيظل التلفزيون مطفأً للأبد.
مع الريموت كنترول تأتى المدرسة كـ “مصيدة”: يظهر قلق الأب على ابنته “ملك” في نص “التنويعات الطائشة للقتل”، حيث يصف المدرسة المصرية بأنها “مصيدة كبيرة للأذى”، ويرى الواقع المصري كحالة من ” القتل بتنويعاته الطائشة “.
يستخدم ممدوح ضمير الغائب للحديث عن نفسه كـ “كائن”، وهو نوع من الاغتراب عن الذات لمواجهة ما أسماه الرعب “
الخلاصة: مجموعة ممدوح رزق هي “مانيفستو” للقلق الوجودي، كُتبت بلغة حادة صريحة، وتميل إلى الكشف النفسي العنيف. هي كتابة لا تسعى لإرضاء القارئ بقدر ما تسعى لـ ” الانتقام من المكان والزمان ” بالكتابة.. المجموعة تعبر عن إنسان يرى جسده “خدعة” ، ويجد في “الغموض القادم من أبعد نقطة زمنية” مبرراً وحيداً للبقاء…
الخلاصة مرة أخرى: تمثل مجموعة “الشكل العادي للجنون” تجربة قاسية في المواجهة مع الذات والمدينة والموت. إنها كتابة تحاول القبض على ” الغموض القادم من أبعد نقطة زمنية ” ، وتقدم صورة للإنسان المعاصر في حالة اشتباك دائم مع ذاكرته وخوفه من الفناء…
بهذا نقدم كاتبا مختلفا عن ما نراه فى كتابة القصة القصيرة التى تحولت فى المدة الأخيرة إلى كتابة حواديت، لا تسعى للتشابك مع القضايا الكبرى، ويستسهل كتابها وتهون على يدهم الكتابة، هنا كاتب مفتول العضل الذهنى والثقافى، وله رؤية خاصة به ليس فى الكتابة وحدها، بل فى الناس والفلسفة والفن والكتابة نفسها.
………………………….
“الشكل العادى للجنون.. ويوميات أخرى” ـ ممدوح رزق ـ ميتا للنشر والتوزيع 2024
















