سارة مرشوح
“يونان” ليس مجرد فيلم تُروى أحداثه على خلفية جزيرة ألمانية نائية، بل هو مرثية بصرية هادئة يكتبها المخرج أمير فخر الدين عن المنفى كحالة وجودية دائمة، لا ترتبط بحدود جغرافية بقدر ما تتجذر في أعماق الروح. في هذا العمل، تُصبح رغبة البطل “منير” (جورج خبّاز)، الكاتب العربي المنفي، في وضع حد لحياته، ليست قرارًا عابرًا، بل تتويجًا منطقيًا لاغتراب طويل وشامل. هذه الحبكة الافتتاحية تذكرنا بشكل لافت برواية “فندق الصمت” لأودور آفا أولافسدوثير، حيث يسافر بطلها “يوناس” إلى بلدة نائية للإقدام على ذات الفعل؛ وهو تطابق في الفكرة المحورية والحدث التأسيسي يكاد يكون كاملاً! بل إن الصمت المطبق الذي يسيطر على “منير” في الفيلم، يوازيه في الرواية حرص “يوناس” على عدم الحديث لتجنب كشف خطته، مما يعزز هذا التساؤل حول المصدر والإلهام.
يستمد الفيلم قوته من شعرية اللحظة الصامتة. فالجزيرة المغبّرة والمهددة بمياه البحر العاتية، تخدم كـ “موقع خارجي للنفس الداخلية” لمنير. هي ليست مجرد ديكور، بل هي تجسيد بصري لمتاهة الروح المنهكة. كاميرا المخرج تتأمل في تضاريس المكان الهادئة والقاسية بنفس القدر، متجنبة الإغراق في التفسير السياسي المباشر للمنفى، وتختار بدلاً من ذلك التعمّق الفلسفي في الانعزال.
يتألّق جورج خبّاز في دور “منير” ببراعة تتجاوز صورته المألوفة. يقدّم أداءً يتميز بـ الاقتصاد الشديد في التعبير وعمق النظرة. الصمت في أدائه أكثر بلاغة من الكلمات، ونظراته المكسورة هي نافذة على اليأس النبيل. التوتر الدرامي الحقيقي في الفيلم لا ينبع من خطر خارجي، بل من الصراع الداخلي لمنير بين صوت اليأس، الذي يمثله المسدس، وبين النبض الخافت للحياة الذي تمثله شخصية “فاليسكا” (هانا شيكولا)، السيدة الألمانية صاحبة النزل.
إن قوة الفيلم لا تكمن فقط في استكشاف قسوة المنفى الباردة، بل في قفلة التحوّل التي يختبرها منير، والتي تتجسد بأبلغ شكل في مشهد رقصة مفاجئة أتت كمفارقة صارخة مع حالة الجمود واليأس التي لازمته طوال الفيلم. هي لحظة كسر القيد الذي فرضه الاكتئاب، حيث يعود الجسد ليتنفس ويتحرك بعيدًا عن صرامة الأفكار الثقيلة. هذه المشاركة العفوية مع فاليسكا هي اعتراف ضمني بقيمة الروابط الإنسانية البسيطة التي أشعلتها.
القفلة تؤكد على أن الخلاص يأتي عبر الآخر. ففاليسكا لم تقدم لمنير خطباً عن الحياة، بل قدمت له الدفء والرعاية الأمومية غير المشروطة. هذا اللطف الهادئ هو ما أذكى “الإرادة المتلاشية للعيش”؛ هي التي أعطته خيطاً رفيعاً ليعود إليه.
في المحصلة، “يونان” فيلم ثقيل، يفرض على المشاهد وتيرته الهادئة للتأمل في أسئلة الذاكرة والانتماء. هو ليس عملاً جماهيريًا بالضرورة، لكنه إضافة نقدية وفنية هامة تسائل طبيعة المنفى المعاصر، وتؤكد كيف أن اللطف الإنساني البسيط قد يكون هو الخيط الوحيد الذي يربط الروح بضفاف الحياة. وعلى الرغم من هذا التشابه الصارخ في الفكرة الجوهرية والحدث التأسيسي مع رواية “فندق الصمت”، يظل السؤال معلقاً حول ما إذا كان الفيلم مستلهماً منها فعلاً، أو ما إذا كان صناع العمل قد أشاروا إلى مصدر إلهامهم في أي من المواد الترويجية ؟!








