المثقف والمبدع: تفكيك الالتباس واستجلاء الحدود الفاصلة

abd allah al salayma

عبدالله السلايمة

يشيع في الخطاب الثقافي العربي التباس واضح بين دور المثقف ودور المبدع، حتى غدا كثيرون يستخدمون الكلمتين كما لو كانتا تعبّران عن الوظيفة نفسها. وعلى الرغم من أن الدورين قد يجتمعان أحيانًا في شخصية واحدة، فإن هذا التلاقي لا يلغي الطبيعة الخاصة لكل منهما، ولا يختصر الفارق الجوهري بين العقل النقدي الذي يمثله المثقف، والخيال الجمالي الذي ينتمي إلى عالم المبدع. ومن هنا تبرز الحاجة إلى تفكيك هذا الالتباس، حماية للمشهد الثقافي من الخلط والتشوش.

فالمثقف ليس مجرد قارئ نهِم، ولا صاحب معرفة موسوعية، بل هو شخص يمتلك رؤية تحليلية وقدرة نقدية واعية، تسمحان له بالنفاذ إلى جذور الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية، لا الاكتفاء بسطحها. إنه فرد يملك مشروعًا فكريًا متصلًا بالشأن العام، ويشتبك مع أسئلة المجتمع الكبرى، ويعيد مساءلة أشكال السلطة كافة: سلطة الدولة، وسلطة المجتمع، وسلطة السرديات الجاهزة. ومن هذا الموقع يصبح ضمير المجتمع ووعيه النقدي، ويخوض معركة الأفكار، ويكشف التناقضات، ويقترح رؤى تساعد على بناء مساحة أوسع للحرية والمعرفة. ولا يُشترط أن يكون المثقف فنانًا أو مبدعًا؛ فقد يكون أستاذًا جامعيًا، أو مفكرًا، أو باحثًا يعمل على إنتاج معرفة تؤثر في الوعي الجمعي.

أمّا المبدع فهو صاحب الخيال الجمالي والقدرة على تحويل التجارب الإنسانية والعاطفية إلى لغة فنية، سواء كانت قصيدة أو رواية أو لوحة أو مقطوعة موسيقية.

يقوم الإبداع على الحسّ الجمالي والحدس واللغة الفنية، أكثر مما يقوم على التحليل الفكري أو النقدي. فقد يكتب الروائي عملًا عميقًا دون امتلاك ثقافة فلسفية واسعة، وقد يبدع الشاعر نصًا مدهشًا دون انشغال مباشر بأسئلة المجتمع أو همومه الفكرية.

فالإبداع، في طبيعته، تعبير وجداني وجمالي لا يُشترط فيه امتلاك أدوات المثقف أو مشروعه الفكري، حتى وإن انطوت بعض الأعمال الفنية أحيانًا على رؤية فكرية أو موقف نقدي يعبّر عن وعي صاحبها.

وينبع الالتباس بين الدورين من عدة أسباب؛ فالمكانة الرمزية للمبدع تجعل حضوره العام طاغيًا، فيُظن أنه يمتلك معرفة شاملة تتجاوز مجال الفن، كما يسهم الخلط الشائع بين الموهبة والمعرفة في تصور أن إنتاج عمل فني دليل على عمق فكري. ويزداد الالتباس حين يُدفع المبدعون إلى واجهة النقاشات الفكرية والسياسية دون أن يمتلكوا الأدوات التحليلية اللازمة، أو حين تُستدعى نماذج استثنائية جمعت بين الإبداع والفكر، مثل طه حسين والعقاد وإدوارد سعيد وأدونيس، فيُخيَّل للناس أن الجمع بين الدورين هو الأصل، بينما هو في الحقيقة الاستثناء.

والفارق بين المثقف والمبدع ليس فقط في طبيعة الأدوات، بل في الدور والوظيفة. فالمثقف يحلل الظواهر، ويفكك الخطابات السائدة، ويدافع عن قيم الحرية والعدالة والمعرفة، ويتدخل في الشأن العام من موقع أخلاقي مسؤول.

أما المبدع فيخلق عالمًا جماليًا جديدًا، ويوسّع إمكانات اللغة والخيال، ويضيء الجوانب الخفية في التجربة الإنسانية، ويسهم في ترقية الذائقة الجمالية للمجتمع.

وتكمن أهمية التفريق في أن الخلط بين الوظيفتين يؤدي إلى إرباك التقييم، وتحميل المبدع ما لا يقدر عليه، ومنح المثقف قيمة فنية ليست من أدواته، وانتشار ظاهرة “النجومية الثقافية” المعتمدة على الشهرة لا على القيمة، وضياع المعايير التي تميّز بين العمل الفني والعمل الفكري.

ومع ذلك قد يجتمع الدوران في شخصية واحدة، حين يمتلك المبدع رؤية معرفية عميقة، أو حين يقترن الخيال الفني بجهد فكري طويل. وفي هذه الحالة يصبح التأثير أوسع، لأن الفن يكتسب عمقًا، والفكر يكتسب حرارة ودفئًا. غير أن هذا التلاقي ليس قاعدة، ولا ينبغي أن يتحوّل إلى معيار يُقاس عليه الجميع.

يحتاج المجتمع إلى المثقف كما يحتاج إلى المبدع، وإلى العقل النقدي كما يحتاج إلى الخيال الجمالي. وحين ندرك الحدود الفاصلة بين الدورين، يصبح المشهد الثقافي أكثر وضوحًا واتزانًا، وأكثر قدرة على قراءة ذاته في مرآة الفن والفكر معًا، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ودون أن تُحمَّل أي من الوظيفتين ما لا يدخل في طبيعتها.

ومن هنا تبدأ القراءة الناضجة لكل حضور ثقافي، ولكل صوت يسهم في تشكيل وعي المجتمع وجمالياته.

Mohamed abuzaid

10 مقال

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع