“The Ugly Stepsister”.. حين يطيح القُبح بمركزية الجمال

بسمة حسن

بدا حضور الأختين القبيحتين في القصة الكلاسيكية “سندريلا” للفرنسي شارل بيرو التي كتبها عام 1697م، ومن بعده الأخوان الألمانيان “جريم” عام 1812م مهملًا وهامشيًّا، بل أُسبغت عليه صفات الشر والغباء والبلاهة، بينما تمحور الحدث والشخصيات حول “سندريلا” الفتاة الجميلة التي التصقت بها في المقابل صفات الخير والنقاء والطيبة، وهو ما يوجِّه النظر لتلك الشخصية ويبرزها، فتصبح المركز الذي تدور حوله بقية الشخصيات، فقط لأنها تمتلك ما يؤهلها للقبول والاعتراف المجتمعي، ويجعلها محور جذب الرجل وهو الجمال.

في فيلم “The Ugly Stepsister” (الأخت غير الشقيقة القبيحة) 2025م تنقلب مؤلفة العمل ومخرجته النرويجية Emilie Blichfeldt (إميلي بليشفيلدت) على تلك الفكرة، فتعرِّي هشاشة قصة “سندريلا”، وتكشف عن التناقضات التي تُخفيها الحكاية الأصلية والبنية التي تصنع “المرأة الجميلة” و”المرأة القبيحة”، حيث تعيد كتابتها برؤية نسوية عبر كوميديا سوداء تكشف طبقات أعمق تتعلق بالصراع حول السلطة الجسدية والاجتماعية، فعبر المبالغة الساخرة يضع الفيلم المُشاهد في مواجهة مع بنى السلطة الثابتة ذات الهيمنة الذكورية، ويستخدم الكوميديا لتفكيكها دون خطاب مباشر، بل عبر إزاحة الرموز من موقع الجدية إلى موقع السخرية.

يبدأ الفيلم بزواج الأم الأرملة “ريبيكا” من أرمل ثري “أوتو” في أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر، لتعود أرملة مرة أخرى بعد وفاته في أثناء حفل الزفاف، وتجد نفسها نفسها في وضع مالي صعب، خاصة أن لها ابنتين هما “إلفيرا” وشقيقتها الصغرى “ألما” اللتان لا تتمتعان بالجمال، وابنة زوجها الجميلة “أغنيس”، ولذلك بدلًا من أن تدفع “ريبيكا” تكاليف جنازة زوجها الراحل، تترك جثته تتعفن في مكان ما بالمنزل، بينما تنفق المال على عمليات تجميلية عنيفة لـ”إلفيرا” عبر كسر أنفها لتعيد تشكيله وتخييط رموش صناعية في عينيها بإبرة كبيرة لزيادة كثافتهما وتقويم أسنانها، وتجلت رمزية ذلك في جملة مكتوبة على لوحة داخل عيادة طبيب التجميل في الفيلم كُتب عليها “الجمال ألم”، على أمل أن يختارها الأمير “جوليان” عروسًا له في حفله بدلًا من “أغنيس” الجميلة دون عمليات تجميل، بجانب ابتلاعها دودة شريطية لتوفِّق بين شرهها الكبير في الطعام والحفاظ على جسمها، إلا أن الأمور في النهاية تخرج عن حدود السيطرة، حيث تكبر الدودة في بطنها بشكل مخيف، وتضطر لأن تقطع أصابع قدميها بسكين حادة لتناسب قدميها الحذاء الذي عثر عليه الأمير في الحفل، لترتديه مغموسًا بالدماء وتزحف لتفاجأ بالأمير في منزلها حاملًا “أغنيس”.

وهنا نجد أن الفيلم يروي حكاية معكوسة لقصة “سندريلا” لكن من زاوية الأخت القبيحة غير الشقيقة “إلفيرا” التي طالما وُصِمت بالقبح وأُقصيت من مركز الحكاية، وبدلًا من أن تكون “الشريرة” تتحول إلى ذاتٍ مأزومة، محاصرة بمعايير الجمال الصارمة، ومهمَّشة داخل العائلة والمجتمع معًا.

قام ببطولة الفيلم Lea Myren “إلفيرا”، و Thea Sofie Loch Næss “أجنيس”، و Isac Calmrot “الأمير جوليان”، و Ralph Carlsson “أوتو”، و Ane Dahl Torp”ريبيكا”، و Flo Fagerli”ألما”، وغيرهم، تصوير Marcel Zyskind (مارسيل زيسكيند)، وموسيقى John Erik Kaada (جون إريك كادا)، وإنتاج Maria Ekerhovd (ماريا إكيرهوفد)، و Christian Torp (كريستيان تورب) وغيرهما، تأليف وإخراج Emilie Blichfeldt (إميلي بليشفيلدت).

 القبح في “The Ugly Stepsister” ليس صفة شكلية بقدر ما هو موقع مقاومة للمعايير الجندرية التي تربط قيمة المرأة بجمال جسدها وشكلها، ومقاومة لخطاب فرويدي قديم نسبة للطبيب النمساوي سيجموند فرويد (1856 – 1939م) يربط الأنوثة بنقص جوهري يتجسد في عقدة “حسد القضيب”، الذي رأت فيه الحركة النسوية تمييزًا جنسيًّا لصالح الرجل، يفترض أن الفتاة عندما تدرك عدم امتلاكها عضوًا ذكريًّا، تشعر بنقص أو نوع من الفقد يجعلها تشعر بالحسد تجاهه، وتعوض هذا النقص عبر إنجاب ذكر يكون تعويضًا وبديلًا رمزيًّا لهذا العضو.

يتجاوز الفيلم فكرة الجندر كخصائص بيولوجية ليتعامل معه بصفته نظامًا اجتماعيًّا تتولد عنه مراتب الجميلة/القبيحة، القوية/الضعيفة، المرغوبة/غير المرغوبة، وحين يمنح “الأخت القبيحة” صوتًا ومساحة سردية، يكسر بها الهرمية المجتمعية القائمة على المعيار الذكوري للجمال، ويمكِّنها من إعادة تعريف ذاتها بعيدًا عن منطق الامتلاك والنقص، هذا التحول يمثل موقفًا نسويًّا يزعزع البنية التقليدية، ويعيد توزيع القوة بين الشخصيات، فيزيح “أغنيس” (سندريلا) للهامش ويعطي “إلفيرا” الصدارة، كذلك تُقدَّم الشخصيات الذكورية في الفيلم في صورة باهتة وذات حضور هزلي، ما يخفّف من مركزيتها ويكشف الطبيعة المصطنعة لهيمنتها. وهكذا، يفكك الفيلم واحدة من أكثر البنى ثباتًا في الثقافة الأبوية: مركزية الذكر وقدرته على التحكم بمسار الحكاية.

بهذا المعنى يتحول الفيلم إلى مساحة نقدية تفكك أساطير الثقافة الذكورية حول الجسد الأنثوي، وتعيد توزيع مركزية البطلة التقليدية، وتمنح “الأخت القبيحة” صوتًا يحتج على السرديات القديمة، ويعيد الاعتبار لـ”القبح” كفعل مضاد لمعيار “الجمال” الذي يُخضع المرأة للرجل، عبر إجبار هذا الرجل للخضوع لمعيار القبح، من خلال شخصية البطلة “إلفيرا” التي ترفض الدخول في سباق الجمال، وتسعى لاقتناص ما تريده وفقًا لمعاييرها حتى ولو كان جمالًا زائفًا لا يقنع الرجل في النهاية.

فالقبح في الفيلم لا يُقدَّم بوصفه نقصًا بل أداة مقاومة، فـ”إلفيرا” لا تحاول التشبه بـ”أغنيس” الجميلة، ولا تسعى للحصول على اعتراف الأمير، بل ترفض معيار التقييم من أساسه، وهذا الرفض الذي يبدو بسيطًا يمثل تحولًا جذريًّا، فهو يقطع الصلة بين الجمال والقيمة، وبين الأنثى والامتثال والطاعة.

وكانت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908 – 1986م) أوجزت في كتابها “الجنس الثاني” 1949م الأفكار الأساسية التي جعلت من المرأة جنسًا درجة ثانية مهمشًا أمام تسلط ذكوري، فالمرأة عند تعريف نفسها تبدأ بالقول “أنا امرأة” والرجل لا يفعل ذلك، من هنا فالرجل هو الذي يحدد الفارق الإنساني وليس المرأة فباتت في علاقة غير متكافئة، أسست لها أيديولوجية لسيطرة الرجل وإذعان المرأة له، سواء اجتماعيًّا أو دينيًّا أو قانونيُّا أو فكريًّا، فجاءت تلك النظرة الدونية لها، وأنها كائن أدنى بالفطرة، حيث تواجه عمليات “غسيل للمخ” عبر الأيديولوجيا الأبوية البطريركية التي تنتج قوالب مكررة عن نمط الرجل القوي الصلب والمرأة الضعيفة الرقيقة.

تظهر الأم في الفيلم مهووسة بالمظهر والزواج والرجل كوسيلة وحيدة للنجاة الاجتماعية للفتاة، من هنا فإنها تعامل ابنتها القبيحة باعتبارها عبئًا وعارًا، فهي لا تملك جمال سندريلا ولا فرصها في الزاوج، ولا نظرة التعاطف التي تحيط بالأخت “المثالية”، ومع اقتراب مناسبة حفل الأمير/الرجل الذي يمثل لهما الوجاهة الاجتماعية والخلاص من الفقر، يتكثف الضغط على البطلة لإجراء عمليات تجميل متعددة حتى تُرضي الأمير.

ورغم قبح “إلفيرا” الخارجي، تبدو “أغنيس” هنا شخصية نفعية ارتبطت بعلاقة حب تطورت لعلاقة جسدية مع عامل الإسطبل بمنزلهم، ولتركه اكتفت بإبلاغه أن عليها أن تتزوج الأمير غير آبهة بعلاقة حبهما، بينما نرى سعي “إلفيرا” الحالمة الخيالية التي لا تخلو من سذاجة وحماقة وجنون وصل بها إلى إيذاء نفسها عبر عمليات التجميل لتناسب ذوق الأمير السطحي، وهو على العكس تمامًا من القصة الأصلية التي كانت سندريلا الفتاة الجميلة الطيبة المثالية محور أحداثها، بينما أختيها غير الشقيقتين رمزًا للقبح والشر، وقد مثلت “ألما” أخت “إلفيرا” صوت العقل الأنثوي في الفيلم، فهي تتمتع بجمال هادئ، ولا تُعير الرجال أو الأمراء أو معايير الجمال التقليدية اهتمامًا، ورغم أنها كانت رافضة لأفعال أمها وأختها، فإنها كانت تشفق عليهما في الوقت نفسه، لنكتشف في الفيلم أن بارقة الأمل هنا لم تكن في الرجل أو الحب أو الزواج إنما في رابطة الأخوَّة، حيث تحمل “إلما” شقيقتها “إلفيرا” في نهاية الفيلم بعد تضميد قدميها عازمتين على الرحيل، تاركتين أمهما الميؤوس منها غارقة في علاقة جنسية مع رجل.

يُظهر الفيلم أيضًا كيف يتحول الجسد إلى ساحة عنف رمزي، عبر الألم وفقد الدماء الذي تتعرض له البطلة خلال محاولات التجميل، والإذلال الصامت، والمقارنات القاسية، والسخرية المستترة، ومع تصاعد الأحداث نكتشف أن القبح في الفيلم ليس صفة شكلية، بقدر ما هو حكم اجتماعي يُفرَض من الخارج ويُستبطَن من الداخل.

وفي لحظة وعي قاسية وهي على مشارف الانتصار والزواج من الأمير، تظهر “سندريلا” الفتاة الأجمل ويبحث عنها الأمير ليتزوجها في النهاية، وهنا تدرك “إلفيرا” أن اللعبة نفسها ظالمة وغير متكافئة، وأن السعي لنيل الاعتراف عبر الامتثال لمعايير الجمال الذكورية لن يمنحها الخلاص، بل على العكس سيجعلها مسخًا تفقد فيه ذاتها.

وقد طرحت الكاتبة الأمريكية نعومي وولف في كتابها “أسطورة الجمال” عام 1990م فكرة الجمال باعتباره أداة سلطوية ذكرية يمكن بها للرجل التحكم بشكل غير مباشر في المرأة، هنا الجمال لا يُستخدم بوصفه قيمة بريئة بل قيمة مغرضة يستخدمها الرجل الذي يملك المال والسلطة أيديولوجيًّا ليدفع بها المرأة لأن تتشكل على هواه وفقًا لمعايير النظام الأبوي، الذي جعله مركزًا وجعلها هامشًا لتشعر بأنها أقل قيمة، ولإعادة إنتاج السيطرة عليها عبر هوس الجمال والمكياج وقوام عارضات الأزياء وعمليات التجميل والحميات الغذائية وفقدان الوزن والحصول على أجسام مثالية، وهذا بالضبط ما سعت إليه بطلة الفيلم “إلفيرا” التي مارست دون إدراك ومورس ضدها كل أشكال القسوة المعنوية والعنف التجميلي الدموي، لأنها حاولت التوافق مع متطلبات المجتمع المحيط بها ومعايير الجمال الشكلي التي يُحكم بها على المرأة.

فالجمال يعد مرحلة من مراحل السيطرة على المرأة، بدأت بالتعامل معها ككائن ساذج رقيق بريء، مرورًا بحصرها في دور ربة المنزل ومربية الأطفال، فالرجال يستخدمون حجة الصفات البيولوجية المختصرة في “الرحم” لإبقاء النساء في أماكنهن وهي حجة واهية، وصولًا لهوس الاحتذاء بعارضات الأزياء ونجمات هوليوود، والانشغال بتكبير الشفاه والأثداء والمؤخرات لتكون النموذج الأنثوي الذي يشبع غريزة الرجل، ليس هذا فحسب فبدلًا من أن ينشغل النساء بالاتحاد لتغيير أوضاعهن وتحسينها والحصول على حقوقهن مساواة بالرجل، تؤجج معايير الجمال التنافس بينهن.

تقول نعومي في مقدمة كتابها على لسان نساء قابلتهن واستمعت لمشكلاتهن أنهن أصبحن يتساءلن: “هل سيُسمع لي إذا ما ظهرت بمظهر (بسيط)؟ هل سأكون (سيئة) إذا اكتسبت وزنًا؟ هل سأكون (جيدة) فقط عندما أخسر كل وزني؟”([1])، وهي الأسئلة التي تشتبك كليًّا مع صراعات البطلة الداخلية التي لا تستطيع السيطرة على شرهها وحبها للطعام في تمرد مدمر تسقطه على نفسها بدلًا من الآخرين، وهو ما يجعلها تلجأ لتناول دودة شريطية لتأكل بحرية وتحافظ شكلًا على جسمها ووزنها، بينما يتساقط شعرها وتجف دماؤها وتسوء صحتها، وكأن هذه الدودة الشريطية معادلًا رمزيًّا لقضيب الرجل الذي كان عليها أن تخرجه مبكرًا، وهو الأمر الذي أدركته في نهاية الفيلم وهي تخرج هذه الدودة السامة الطويلة التي تتغذى على دمائها وجسمها ونفسيتها، لذا “إذا لم تعد النساء يفكرن بهذه الطريقة، أو إذا كن يعرفن على الأقل أن هناك خطأ كبيرًا عندما يجبرن على التفكير بهذه الطريقة، فهي شهادة على ما تحدثه الفكرة عندما تكون في أذهان الكثير من النساء في الوقت نفسه، أي قدرتها على توليد تغيير دائم وتوليد حرية أكثر”([2]).

وإذا نظرنا للرسالة التي أراد الفيلم أن يوجهها للنساء، هي أن يحببن ويقبلن أنفسهن بعيدًاعن النموذج الخيالي الجمالي للأميرات الذي يُحمِّل به الرجل المرأة ما لا تطيق ويطبق سيطرته عليها من خلاله، لأنه كما ذكرت مخرجة الفيلم في حوار لها أن نماذج الأميرات محدودة فهناك سندريلا واحدة فقط، بينما أغلب النساء أخوات غير شقيقات، وأن عنايتهن لا يجب أن تتوجه لجمالهن الشكلي ومظهرهن الداخلي فقط وربط قيمتهن بذلك، ولكن لا بد أن يولين اهتمامهن بجمالهن الداخلي وشخصياتهن وأفكارهن وعقولهن وأثرهن في الحياة، ويجعلهن أقوى وأقدر على مواجهة كل حيلة للتلاعب بهن والتقليل من قدرهن.

نجح “The Ugly Stepsister” في قلب معادلة أن المرأة الجميلة جديرة بالمكافأة، والمرأة غير الجميلة جديرة بالعقاب أو التجاهل، وفكَّك رمزية الجمال القهرية، وأعاد موضعة الأنثى “غير النموذجية” من وجهة النظر المجتمعية الأبوية في قلب الحكاية، مقدمًا نقدًا ساخرًا لبنية السلطة الذكورية، وهكذا تحول من مجرد إعادة سرد لحكاية كلاسيكية إلى نص هجائي يتحدى الهياكل التي جعلت القبح نقيضًا للوجود.

لذا يأتي الفيلم بوصفه واحدًا من أهم الأعمال التي تُعيد مساءلة البنية العميقة التي منحت الجمال الأنثوي سلطة شبه مطلقة، وحوَّلت كل ما عداه إلى هامش أو ظل أو موضوع للسخرية، فهو لا يكتفي بإعادة تقديم “الأخت القبيحة” بصفتها شخصية ثانوية، بل يجعلها مركز الحكاية، ويقترح سردية جديدة تُطيح بمركزية الجمال بوصفه شرطًا للقيمة الإنسانية والقبول الاجتماعي وإرضاء الرجل.

…………………

[1] – “أسطور الجمال”، نعومي وولف، ترجمة إدريس محمود نجي، جسور للنشر والترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2023، ص18.

[2] – المرجع السابق نفسه، ص 18.

بسمة حسن

5 مقال
كاتبة مصرية صدر لها: ـ فولكلور الأسفلت.. ألف حكمة من الطريق.

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع