عادل محمود
بمناسبة استيقاظ الوعي من جديد أمام فيلم The Night of Counting the Years “المومياء” للمخرج شادي عبد السلام، نكتب هذه السطور لنحمل معها رحلة الفيلم عبر ذاكرة أجيال لم تره، وأجيال قد تكاد تنساه. فـ”المومياء” ليس مجرد عمل سينمائي، بل وصية تركها شادي عبد السلام لأجيال قد لا تعرف أن السينما يمكن أن تكون صلاة للهوية.
ما الذي يجعلنا، بعد أكثر من خمسة عقود، نعود إلى هذا العمل كمن يعود إلى نبع لا ينضب؟ الإجابة ببساطة: لأن شادي عبد السلام لم يصنع فيلما، بل صنع “كائنا سينمائيا” فريدا، هجينا بين الأسطورة والتاريخ، بين الفلسفة والدراما، بين اللوحة التشكيلية والقصيدة الملحمية.
إنه فيلم يرفض أن يكون “سلعة” أو “تسلية”، ويصر على أن يكون “قضية” و”استفهاما”. إنه مرآة مظلمة نرفعها أمام وجوهنا، ليس لنتأمل ملامحنا فحسب، بل لنرى خلفنا أشباح أجدادنا تسألنا: من أنتم؟ وماذا فعلتم بما تركنا؟
ما عزز هذا الطرح أن الفيلم، المعنون بالإنكليزية (The Night of Counting the Years (1969 والمعروف عربيا بـ”المومياء”، يعد من أبرز أفلام السينما المصرية – بل العربية – من حيث البعد الرمزي والتاريخي.
يدور فلك الفيلم حول قبيلة “الحرابات” في طيبة، تلك الكائنات التي تسكن على أطلال أمجادها منفصلة عنها. إنهم أحفاد بناة المعابد الذين تحولوا إلى لصوصٍ لقبور أجدادهم. لكن العقدة هنا ليست في “السرقة” كمهنة، بل كـ”انكسار أخلاقي”. العرف القبلي، المتسربل بثياب الدين والورع، يحرم انتهاك حرمة الموتى، يعتبر ذلك “عارا” لا يغسله إلا الموت. هنا يتحول الصراع من مجرد صراع على الرزق إلى صراع وجودي بين “المقدس” – المومياء كجسد للجد والتراث والروح – و”المدنس” – المومياء كسلعة في سوق المستشرقين والتجار-.
الفيلم يسجل لحظة الانفصام الكبرى في الوعي المصري: عندما يتحول التراث من كونه “هوية حية” إلى “أثر ميت” يباع ويشترى. هذا ما أكده الكثير من الدارسين حين وصفوا أن الفيلم “يحول الماضي إلى حضور يحتشد في الحاضر”.
في قلب هذه العاصفة الأخلاقية، يقف “ونيس” – أداء أحمد مرعي النادر – إنه ليس بطلا بالمعنى الهوليودي، لا قوة خارقة له ولا قرارا حاسما. إنه الإنسان العادي، المطحون بين فكي الفقر والضمير. حاجته تدفعه نحو حفرة “العار”، وتربيته وقيمه تسحبه بعيدا عنها. شادي عبد السلام، بوعي الفنان الفيلسوف، اختار هذه الشخصية “الهشة” لتحمل أكبر الأثقال. أداء احمد مرعي هو درس في “دراما الصمت”، الحيرة في نظرته، ثقل الذنب في حركته، مأساة كاملة تعيش على وجهه الذي يشبه وجوه التماثيل الفرعونية الباسمة والباسلة في آن. ونيس هو “مصر” نفسها، تحمل جثة جدها على ظهرها، ولا تدري أين تدفنها، ولا كيف تعيش بها.
المستشرق وتاجر الآثار في الفيلم ليسا مجرد شخصين شريرين، بل هما تجسيد لآلة استعمارية أكثر دهاء من الاستعمار العسكري. إنهما لا يسرقان الذهب والأحجار فقط، بل يسرقان “الرواية”. يقطعان شعبا عن تاريخه، فيتحول هذا التاريخ إلى غنيمة في متاحف الغرب، بينما يتحول الأحفاد إلى خدم عند أبوابها.
الفيلم، بمشهده الختامي المأساوي حيث تحمل المومياء في رحلة صعود أشبه بطريق الآلام، هو محاولة يائسة لاستعادة هذه الرواية، لاستعادة “الجد” من سوق النهب.
إنها مقاومة بالجسد المنهك ضد آلة الاستعمار الجارف. العمل لا يظهر فقط “النهب” كممارسة، بل يظهره كأداء وجودي، و خيانة للذات قبل الأرض.
إخراج شادي عبد السلام هو ضربة من “التصوف السينمائي”. الكاميرا ثابتة في معظم الأحيان، وكأنها توقف الزمن لتجبرنا على التأمل. الإيقاع البطيء ليس عيبا، بل هو بيان جمالي وسياسي في آن. إنه رفض لإيقاع العصر الاستهلاكي السريع، وإصرار على أن بعض الأفلام يجب أن “تشاهد” كما يصلى بخشوع وترقب. كل لقطة هي لوحة مستقلة، تستدعي روح “الفريسكو” الفرعوني والرسم على البردى. إنه يخلق “زمن الآثار” داخل زمن الفيلم. كثير من المراجع تؤكد أن التصوير – بدعم التصميمات الهندسية الدقيقة للمساحات والتماثيل والملابس – هو ما جعل الفيلم يبدو وكأنه “لوحة سينمائية حية”.
كان اختيار التصوير بالأبيض والأسود اختيارا مصيريا. ليس مجرد انحياز جمالي، بل هو رؤية فلسفية. الأبيض والأسود هنا هما ألوان الذاكرة، ألوان الحلم، ألوان الواقع القاسي بلا أية زينة. الضوء والظل يتحولان إلى شخصيتين رئيسيتين، الضوء يكشف عن ملامح المعاناة الإنسانية، والظل يخفي أسرار التاريخ والذنب. المشاهد الواسعة للصحراء والجبال تذكرنا بصغر الإنسان وعظمة الحضارة التي خلفها، بينما اللقطات المقربة في الأكواخ تضغط على المشاعر الإنسانية حتى آخر قطرة.
موسيقى “ماريو ناشيمبيني” هي العظام التي تحمل جسد الفيلم.
إنها موسيقى لا تعلق في الذاكرة فحسب، بل تحفر فيها.
تتراوح بين الأناشيد الملحمية المهيبة التي تذكر بأنك تقف على أرض الملاحم، والمقطوعات الكئيبة التي تعزف على أوتار المأساة الراهنة.
لكن الصوت الحقيقي في الفيلم هو “الصمت” نفسه.
صفير الرياح في الفلاة، همسات الرجال في الظلام، كلها تشكل سيمفونية من القلق والترقب.
إنه صوت الصحراء، صوت التاريخ، صوت الضمير.
المونتاج هنا لا يهدف إلى السلاسة، بل إلى “الصدمة” والاستعارة.
القفزات بين مشاهد الآثار الشامخة ومشاهد البشر المنكسرين تخلق إحساسا بالانفصام والانزياح.
مشاهد الحلم أو الهلوسة، حيث تخرج المومياوات من قبورها وتسير في مواكب جنائزية، هي لحظات تكسر الحاجز بين الواقع واللاوعي الجمعي، بين الحاضر والماضي الأسطوري.
إنها لغة سينمائية جديدة، ترفض قيود السرد التقليدي.
ليس هناك من “يمثل” في هذا الفيلم بالمعنى المتعارف عليه، بل الجميع “يوجدون” داخل شخوصهم.
أحمد مرعي هو ونيس بكل ما تحمل الكلمة من معنى، نظراته تحكي أكثر من أي حوار، باقي أفراد القبيلة، بشخوصهم التي تبدو منحوتة من صخر الجبال، يقدمون أداء جماعيا هو الأقرب إلى “كورس” التراجيديا اليونانية. إنهم ضحايا القدر والجبروت التاريخي.
الفيلم هو أعمق تشخيص لأزمة الهوية المصرية، كيف لشعب أن يعيش فوق كنز من التاريخ وهو أفقر الناس؟ كيف أصبح المصري “غريبا” في أرض أجداده؟ الفيلم يسائل الدولة والمجتمع معا عن هذه العلاقة المشوهة مع التراث، فما قيمة أهرام وشواهد إذا لم تكن جزءا من حكايتنا اليومية؟
ماذا يحدث عندما يتحول الماضي إلى “متحف” يشاهد فقط، دون أن يحيا؟
يتجاوز الفيلم مصر ليتحدث عن الإنسان في كل زمان ومكان، ذلك الكائن الذي يجبر أحيانا على بيع قيمه من أجل قوت يومه، هو التجسيد الأبدي لمعضلة “الضرورة والأخلاق”.
في هذا السياق، يصبح الفيلم أيضا تأملا في كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم – أو يستسلم – لتاريخه وانحداراته، وكيف يصنع من الذاكرة والذنب والعيش معا سيرورة لا تنتهي.
يمكن قراءة الفيلم كواحد من أوائل الأعمال “ما بعد الاستعمارية”. إنه يرفض الصورة “الاستشراقية” التي قدمها الغرب عن مصر كأرض غامضة للمومياوات والكنوز، بدلا من ذلك، يقدم الفيلم مصر ككائن حي ينزف، يعاني من ثقل هذا التراث ومن سرقته في آن واحد. إنه يقلب الطاولة على المستشرق، ليس فقط كنهاب، بل كجزء من آلة تشويه الهوية.
إذا كانت السينما – كما يقول بازان – هي “فن الزمن المتحول إلى صورة”، فإن “المومياء” هو النص الذي حرر الزمن العربي من سجن الحاضر الاستهلاكي، وأعاده إلى مقامه الطقسي العميق. لقد كان هذا الفيلم، في لحظة ميلاده عام 1969، أشبه بومضة برق في سماء مثقلة بالضجيج الدعائي والسياسي. خرج في زمن كانت فيه السينما المصرية تميل إلى الواقعية الاجتماعية أو الميلودراما، فجاء كأنه حجر وضع في نهر آخر تماما – نهر من التأمل، من القلق، من السؤال الحضاري.
لم يكن شادي عبد السلام مخرجا تقليديا، بل أقرب إلى “أركيولوجي بصري”، يحفر في الزمن لا في المكان. دراسته للفنون الجميلة، وعمله في تصميم الديكور والأزياء التاريخية – كما في “وإسلاماه” و”الناصر صلاح الدين” – منحاه حسا تشكيليا جعله يعامل الكادر السينمائي كلوحة فنية قائمة بذاتها. هذه المقاربة ألهمت جيلا كاملا من المخرجين المصريين والعرب، من يوسف شاهين في “الناس والنيل” و”المهاجر”، إلى توفيق صالح في “المخدوعون”و، مرورا بمحمد ملص في “أحلام المدينة”و، وصولا إلى داوود عبد السيد في “الكيت كات” و”رسائل البحر”، حيث يتحول الكادر إلى مساحة للتأمل لا مجرد حكاية تروى.
ولعل أثر “المومياء” لم يتوقف عند الشكل، بل امتد إلى فلسفة السينما ذاتها: ما جدوى الفن إذا لم يوقظ الذاكرة؟ كيف تكون الصورة مقاومة للنسيان؟ هذه الأسئلة تسكن الآن في صلب تجارب مخرجين شباب من المغرب ولبنان وفلسطين، أمثال فوزي بن سعيدي، وآن ماري جاسر، وكميل بلبكي، الذين يصنعون من السينما وسيلة لتأمل الوجود العربي الممزق بين التراث والحداثة.
بعد نجاح “المومياء” في المهرجانات الدولية – نيله جائزة الاتحاد الدولي للنقاد في كان عام 1970، وعرضه لاحقاً في لندن وقرطاج ونيويورك – ظن كثيرون أن الدولة المصرية ستتبنى مشروع شادي عبد السلام.
لكنه عاش ما يشبه التراجيديا الثانية في حياته: مشروعه الملحمي “إخناتون” ظل حبيس الأدراج حتى وفاته عام 1986، كتب عنه السيناريست الإيطالي إنزو بيتشي: لو صور إخناتون كما تخيله شادي، لكانت السينما المصرية قد دشنت عصرها الذهبي الثاني.
هذا الفشل المؤسسي في دعم المشروع يوازي تماما المأساة التي صورها “المومياء” نفسه: مصر التي لا تعرف كيف تصون كنوزها الحية، فدفنتها قبل أن تولد.
في عام 2009، أعيد ترميم “المومياء” بجهود مؤسسة السينماتك الفرنسية ومتحف السينما الإيطالي، بدعم من مؤسسة مارتن سكورسيزي للسينما العالمية.
وقد وصف سكورسيزي الفيلم بأنه “من أعظم ما أُنتج في تاريخ السينما العالمية، عمل عن معنى الإنسان أمام التاريخ”.
تدرس اليوم مشاهد “المومياء” في مدارس السينما في روما وباريس ونيويورك، ضمن مقررات “السينما الروحية” و”ما بعد الكولونيالية”، إلى جانب أعمال تاركوفسكي و كيشلوفسكي وكارل دراير.
وهكذا أصبح شادي عبد السلام، المخرج الذي مات دون أن يصنع فيلماً ثانيا، جزءا من ذاكرة السينما العالمية التي لا تموت.
في العقدين الأخيرين، عاد الاهتمام بالفيلم مع موجة الدراسات ما بعد الكولونيالية، حيث رأى نقاد مثل إدوارد سعيد وهومي بابا – في قراءاتهم للتاريخ الثقافي – أن “المومياء” يشكل نموذجاً مبكرا للوعي المقاوم لهيمنة الخطاب الغربي.
فبينما قدم الغرب المومياء كرمز للرعب أو الغرابة – The Mummy, 1932 مثلا – أعاد شادي عبد السلام لها معناها الأصلي: جسد الجد الذي يطالب بالعدالة والتكريم.
في هذا المعنى، “المومياء” لا يتحدث عن الماضي، بل يفضحه، لا يجمل التاريخ، بل يعريه، ومن هنا يأتي حضوره المستمر في زمن يهدد فيه النسيان كل ذاكرة وطنية.
لقد صنع شادي عبد السلام فيلما واحدا، فصار مدرسة كاملة. من رحم “المومياء” خرجت فكرة أن السينما ليست فقط ما نراه على الشاشة، بل ما يتردد في وعينا بعدها. كل مخرجٍ عربي يسائل التراث اليوم، كل مصور يرى في الكادر صلاة لا لقطة، كل مشاهد يرى في الفيلم مرآة للروح – هو تلميذ في معبد شادي عبد السلام.
فيلم “المومياء” ليس أثرا من الماضي، بل كائن حي يلاحقنا في الحاضر، يذكرنا بأننا إذا نسينا موتانا، سنموت مرتين: مرة حين نفقدهم، ومرة حين نفقد أنفسنا معهم.
كأن “المومياء” لم يكن فيلما عن الماضي، بل عن حاضر يهرب من نفسه كل يوم. فكما سرقت تماثيل الأجداد من المقابر القديمة، تسرق اليوم ذاكرة الشعوب في المزادات العلنية للعولمة، تباع الهوية في أسواق السياحة الثقافية، وتزيف الأسماء والتواريخ لتناسب رواية المنتصر.
المشهد الذي صوره شادي عبد السلام – حين يقف الأبناء أمام رفات الآباء في دهشة ووجل – يتكرر اليوم في كل عاصمة عربية تبحث عن ملامحها بين الأطلال والصفقات.
لقد صار تهريب الآثار وجها رمزيا لتهريب المعنى نفسه، فالأوطان التي لا تحفظ موتاها، لا تعرف كيف تحفظ ذاكرتها.
بهذه الطريقة، يظل فيلم المومياء ليس مجرد فيلم يشاهد وينسى، بل نصا حيا على الوعي والذاكرة والثقافة العربية، يحدق في وجوهنا كل يوم، يسائلنا عن علاقتنا بالتراث، بالهوية، وبصمت الأجداد، ويذكرنا بأن السينما قادرة على أن تكون طقسا للروح قبل أن تكون ترفيها للعين.
“المومياء” ليس فيلما للمتعة، بل للتجربة. هو طقس سينمائي صعب وضروري. قد يجد البعض في إيقاعه بطئا، ولكن أليست الآثار نفسها “بطيئة” في حديثها؟ لقد قدم شادي عبد السلام عملا أسس لسينما التأمل والفكر، سينما ترفض أن تكون خادمة للصناعة، وتصر على أن تكون ندا للفلسفة والشعر والرسم.
في زمننا هذا، حيث تتحول كل القيم إلى سلع، وتباع الهوية في سوق العولمة، وتنهب الآثار بأشكال جديدة، يظل فيلم “المومياء” صرخة مدوية في أذن الصم. إنه فيلم عن الموتى، لكنه في الحقيقة نداء حار للأحياء: أن تعيش بكرامة، أن تتذكر بهوية، أن تحمل تراثك لا كحجر على ظهرك، بل كمشعل نور بين يديك.
شادي عبد السلام صنع فيلما واحدا، فدخل به تاريخ السينما من أوسع أبوابه. لأنه فهم، كما يجب أن نفهم، أن السينما الحقيقية ليست تسجيلا للواقع، بل هي تساؤل عنه، وليست هروبا منه، بل مواجهة له.





