أشرعة رجب سعد السيد الرمادية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد السيد عيد

(1)
هذه هي المجموعة الأولي للكاتب السكندرى رجب سعد السيد، وهى في معظمها تروى قصة بطل واحد، له ملامح رجب سعد نفسه، مما يجعلها أشبه بسيرة ذاتية للكاتب خلال الفترة من ١٩٦٧ إلى وقت كتابة هذه الدراسة.
تنقسم قصص المجموعة من الناحية الزمنية إلى أقسام:
*قسم يعالج هموم الفترة بين حربي 1967 – 1973
* قسم يعالج هموم فترة حرب أكتوبر ۱۹۷۳
*قسم يعالج هموم الفترة ما بعد ١٩٧٤

وفيما عدا البهجة الطارئة في قصتى «نقش على جدران كهف الخوف”، و”إزالة السواتر” اللتين كتبتا إبان فترة الحرب، نجد أن الرؤية العامة في المجموعة تنحصر في دائرتين متداخلتين، هما: الحزن والخوف.

وللحزن عند كاتبنا أسباب عديدة، أولها: ضياع الحب.

في قصة “سياحة في غابة الأشجار المتحجرة” –مثلاً- وهي من قصص ما بين الحربين، تقف الحرب عائقاً أمام الحب، وتترك الحبيبة حبيبها لأنها لا تستطيع الانتظار، بينما شبح الثلاثين يهددها.

أما في قصة “صورة من قريب لوجة حبيبتى”، وهى من قصص ما بعد الحرب، فإن الواقع المادى الصعب يجعل بطلنا غير قادر على الزواج بمن يحب.. يذكر بطل القصة في حديث بينه وبين أستاذه الذي يحاول أن يثنيه عن فكرة السفر للخارج فيقول:

“قلت له: سأهديك يوماً مجموعة الخطابات المتبادلة بيني وبين حبيبتى خلال سنوات الجندية، لتقرأ أحلامنا. لم نكن نحلم لانفسنا كثيراً. كان حلمنا كبيراً ودائم الإبراق، وكنا شديدى الثقة في أن أحلامنا الصغيرة سوف تتحقق من خلال الحلم الأخضر الكبير.

قلت له: إننى وحبيبتى أحيانا ننسى اليأس، ونظل نحلم أحلام الماضى القريب، ولكنا لم نعد نحتمل التجول العاجز المغيظ في شارع صفيه زغلول أمام البوتيكات والسلع البراقه التى تخرج لنا ألسنتها. لقد سئمنا من المشى فى طريق الكورنيش نلتهم الترمس وحبات الفشار الهشه المنتفخة، ونتسلى بالسخرية”
ويصل الأمر فى قصة “الرياح تملاً الأشرعة الرمادية” إلى حد أن البطل يقرر عدم الزواج ممن يحب لأنه لا يريد لأولاده أن يتنفسوا الهواء، أو يعيشوا في هذا الزمن.

ويرتبط ضياع الحب بضياع الحلم، فالحلم أيضاً مجهض في كل قصصنا، عدا القصتين اللتين كتبتا في زمن الحرب. يقول بطل “غابة الأشجار المتحجرة”: “هذا ليس زمان الأحلام الوردية، وأخاف أقول ليس زمان الحب” وتقول البطلة” “لن تفعل لنا الأحلام شيئاً”.

إن الحرب تجهض الحلم كما خنقت الحب من قبل. أما في “فانتازيا الفئران الجبلية” فإن الحلم يتحول إلى كابوس، إلى حد أن البطل يقفز من نومه مذعوراً وهو يظن أنه قد نبت له ذيل وأصبح فأراً من هذه الفئران التي تشاركه ملجأه وتأكل أوراقه”

وفي “صورة من قريب” التي كتبت بعد الحرب نرى الحلم ينهار. لقد خاض صاحبنا الحرب من أجل مستقبل أفضل، وبعد الحرب رُفعت راية السلام تحت دعوى المستقبل الأفضل، لكن هذا المستقبل الأفضل لم يتحقق، والواقع القاسى الذى يحيط الناس بالأزمات نجح في أن يجعل أقصى احلام الفقراء أن يسكنوا فى المخابئ التي لم يعد لها استعمال بعد المصالحة، أو أن يجدوا دورة مياه تأويهم عند قضاء الحاجة، بعد أن عجزت العشش الصفيح عن ذلك، أو أن يجدوا مكانا في طابور الجمعية.
ومن أسباب الحزن أيضاً في مجموعتنا هذه الظواهر الغريبة التي طرأت على مجتمعنا خاصة ظاهرتا العنف، والجنس، اللتان أفرد لهما كاتبنا قصة ممتازة بعنوان “اختطاف”.

كان بطل هذه القصة ضابطاً خلال الحرب، وعاد من الحرب يحمل دلیل بطولته إصابة في كتفه من دفعة فيكرز، إلا أن هذا البطل الذي لم يمت في الحرب وهو يدافع عن شرف مصر يُضرب إلى حافة الموت وهو يدافع عن شرف خطيبته أمام مجموعة من السفله الذين أرادوا أن يختطفوها منه. وتصل المرارة غايتها باكتشاف أن أحد المعتدين عليه كان جنديا معه في الحرب.

ومن أسباب الحزن أن الاسرائيليين الذين أراقو دمنا على رمال سيناء، وعلى طول القناه، ولم نستعد منهم أرضنا إلا بالدم والدموع والتضحيات.. هؤلاء الاسرائيليون قد فتحت أمامهم أبواب مصر بعد المصالحة وكأن شيئاً لم يكن. لكل هذه الأسباب كان الحزن خيمة مفرودة كالليل على مجموعتنا بأحداثها، وأبطالها، تغطيها بالسواد والألم.

وإلى جوار الحزن كان الخوف.
ومصدر الخوف فى فترة ما بين الحربين كان مجهولاً، لكنه أثناء الحرب أصبح مبرراً، معروف السبب. ولا يعتبر كاتبنا الخوف من الحرب شيئاً مخزياً، لأنه ليس جبناً، بل هو شعور إنساني عادى. يقول في ذلك على لسان أبطاله في قصه “عن إزالة السواتر”:

“أنا خائف.. وهذا محزن، محزن ولكنه غير مشين.. أنا كذلك.. ليس جباناً، ولكنه التأثير المتراكم للهزيمة واليأس والصمت والانتظار الممل”

ويتغير سبب الخوف بعد الحرب.. يصبح. خوفاً من انهيار البيوت، ومن الأزمات الطاحنة التى تهدد الناس بالجوع، ومن أن الحب يمكن ألا يستمر، يصبح باختصار خوفاً من المستقبل.

هكذا يتشكل الخوف فى كل مرحلة بشكل جديد، لكنه يبقى دائماً بيننا، لا يفارقنا أبداً، ويصبح الخوف أثناء الحرب أبسط أنواعه، لأنه الخوف الوحيد المبرر إنسانياً.

في وفي ضوء الحزن والخوف تشكلت أدوات كاتبنا الفنية، وسنرى هذا في الصفحات القادمة، ولتكن البداية مع الشخصيات.

(2)
إن شخصيات مجموعتنا جميعاً،عصبية، قلقة، غير راضية؛ ولنأخذ مثالاً على ذلك من قصة “الرياح تملأ الأشرعة الرمادية”. في هذه القصة نرى بطلنا يسير مع حبيبته فى شوارع الاسكندرية، في البداية يقترح عليها أن يتركا محطة الرمل بضجيجها إلى الحديقة الهادئة التي يتوسطها تمثال كاتمة الأسرار، فتوافقه، إلا أنه يعود فيطلب منها أن يذهبا إلى محطة الرمل، وللمرة الثانية تطاوعه، وفى الطريق يشعر بانقباض في صدره يخنقه، لذلك يتصرف بعصبيه مع الفتاه، حتى حين تحاول إثارة ذكرياته الحلوة يقابلها بالتجهم، وعندما يصبحان في محطة الرمل يخبرها أنه يفضل لو لم يجلسا فى مكان، وأن يستعيضا عن ذلك بالسير، ثم يدخل معها إلى اتينيوس، وهناك يتحول اللقاء إلى عذاب، ونعرف أن الحبيب قرر أن ينفصل عن حبيبته، رغم استمرار حبه لها، لأنه – كما ذكرنا من قبل – لا يريد لأولاده أن يتنفسوا هذا الهواء. وتنتهي القصة بالبطل غير قادر حتى على مجرد الكلام، بينما تمضى الحبيبه والدموع تنساب من عينيها.

إن هذا البطل نموذج متكرر، يمكننا أن نجده في العديد من قصص مجموعتنا، مثل: “عقود فل ذابلة”، “العزف على الاوتار المرتخية”، “صورة من قريب لوجه حبيبتي”، “اختطاف”، وغيرها.
وإلى جانب التوتر والعصبية وعدم الرضا تتسم شخصيات مجموعتنا بإحساس عميق بالفشل، بل إن أول كلمة في المجموعة كلها هي: الفشل.

والفشل يتخلل حياة البطل فى كل المجالات: فشل في الدراسة، فشل في الحصول على الوظيفة التي يستحقها، فشل في الحب، في العمل، في التواصل مع الأجيال الأخرى. فشل كامل ينتهي بصاحبنا إلى الشعور بالعجز والهزيمة والشيخوخة المبكرة. ويتكثف هذا الإحساس ويتركز إلى أبعد حد فى قصص ما بعد الحرب. ففى “الأشرعة الرمادية” مثلاً تقول البطلة لحبيبها: “كأنك شيخ مهزوم”، ويقول هو لنفسه: “القلب مركز الكون مثقل بأكياس الرمل”

ويقول لحبيبته: “بقايا فارسك القديم لم تعد تليق بك. هل تكفيك تزاويقه ؟ لديه دروعه وتروسه لكنه – فجأة – دهمته الشيخوخة”.

وفي قصة “العزف على الأوتار المرتخية”، يصف الكاتب بطله بأنه لا يوجد في داخله غير اللون الأبيض الذى لا يعد بدفء يكفي للقضاء على التثلج الداخلى، الذى يؤدى بالكيان كله إلى شفا كهولة مخيفة. ولا يكتفى الكاتب بهذا القول، بل يجعل البطل مثلاً حياً للعجز. إذ نراه في نهاية القصة غير قادر على تنفيذ قرار تافه يكسر به جمود حياته، وهو الذهاب إلى مباراة لكرة السلة.

ومن سمات الشخصيات فى المجموعة: السلبية، ولا تكسر هذه القاعدة إلا أربع قصص فقط هى: “عن إزالة السواتر” التي يقوم فيها بعبور القناة، وفتح ثغرة في الساتر الترابي. وقصص “اختطاف”، “فعل إيجابي”، و”إنزل”.

في القصة الأولى يواجه البطل أربعة رجال، أحدهم يحمل مطواة، يواجههم وحده بشمسية مطر، ويقاتل دفاعاً عن خطيبته حتى فقدان الوعي.

وفي القصة الثانية نرى بطلنا بعد أن سافر إلى ليبيا ليعمل مدرسا للكيمياء يرفض الطريقة الدكتاتورية التى يتصرف بها المسئولون البوليسيون، رغم أن ذلك يكلفه علقة أخرى يفقد فيها الوعى للمرة الثانية. أما في القصة الثالثة فقد أوقف السيارة ليطرد منها السائح اليهودي الذي ركب معه فى التاكسى الذى يقوده بعد مواعيد العمل الرسمية ليحسن دخله. طرده رغم ما كان يمكن أن يدفعه له من ثمن مجزٍ كسائح يجتر ذكرياته فى مدينة ولد وعاش بها فترة غير قليلة. طرده حتى دون أن يطالبه بثمن المسافة التي ركبها معه.

إن هذه القصص الثلاث، وهي آخر ثلاث قصص في المجموعة تعكس رأياً محدداً للكاتب مؤداه أنه لم يعد للسكوت مكان، وأن على كل إنسان أن يفعل شيئاً إيجابياً بدلاً من الاستسلام للحزن والكآبه ومشاعر العجز والهزيمة.

ومن حق رجب أن نعترف له قبل أن نترك الحديث عن الشخصيات بقدرته على رسم شخصياته، أو بمعنى أدق، بطله الواحد في مراحله المختلفة، رسماً يدل على موهبه صادقه وحرفية عالية.

(3)

اعتمد كاتبنا فى كل قصص المجموعة على ضمير المتكلم، عدا “العزف على الأوتار المرتخية”، وقد أعطى ضمير المتكلم للقارئ إحساساً بشخصية التجربة وصدقها.

وقد تأثر قاموس رجب بالتجربة تأثراً كاملاً، ويمكن رصد دائرتين متداخلتين برزتا في المجموعة، وفرضتا نفسهما على هذا القاموس، وهاتان الدائرتان هما: دائرة الجندية، ودائرة الفشل والأحاسيس المحبطة. ويمكننا – بالنسبة للجندية – أن نجد المفردات والتراكيب الآتية: خنادق مدافع، دانات، فانتوم، سكاى هوك، قنابل ألف رطل، نابالم، الملجا، شبكة التمويه، الساتر، الحفر البرميلية، الجرينوف، الدورية، آلات الإنذار، المخابي، الصواريخ، الرتالة، الغارة، القذيفة، الكوريك، الخوذة، الكاكي، الفيكرز، الشظايا، الطلقات، الثغرة، الساتر، الجسر، الكيميا، ضربة الغاز، العمليات، الدروع، المشروع، الكتيبة، الفصيلة، الوحدة. بالإضافة للرتب العسكرية المختلفة، وغيرها.

أما بالنسبة للفشل والحالات النفسية المتوترة والمحبطة، فيمكننا أن نجد المفردات والتراكيب التالية: الفشل، العصبية، التوتر، العجز، الصراع، الدمع، الخوف، الحصار، الشيخوخة، الهزيمة، الفراق، الشروخ، المطاردة، التقلص، الألم، الدوار، التشنج، الصراخ، السقوط، الارتجاف، الهرب، المتاعب، الذعر، الرعشة، المزاليج، الأسوار، الأبواب المسدودة، الموت، والسرطان.

وينبغى ألا نفهم من هذا القاموس أن طريقة التعبير الوحيدة كانت هي الطريقة المباشرة، وإلا كان هذا عيباً، خاصة أن الكاتب يتعرض لموضوعات ساخنة، مثل تجربة الحرب، وتجربة نقد الواقع، ومن السهل في مثل هذا الموضوعات أن ينزلق أى كاتب من المباشرة إلى الخطابية.

لقد كان الكاتب ذكياً، واستخدم الرمز، والتعبير المجازى، ليبتعد بهما عن المحظور. ومن الرموز التي استخدمها كاتبنا كثيراً بنجاح رمز الغول، استعاره من التراث الشعبي، وجعله بديلاً لكلمة العدو، ورمز الفارس الذى جعله بديلاً للمقاتل المصرى، أو بديلاً عنه شخصياً في أحيان أخرى.

يقول مثلاً فى قصة “إزالة السواتر” مخاطباً وجه حبيبته وهو في طريقه للحرب:
“إبق معى وأنا أعدك بحل كل الألغاز، أسواق إليك النوق العصافير، أحمل إليك رأس الغول على سن رمحي. وباليد الأخرى أهبك إشارة الأمان”
فى هذا المقتطف نجد أكثر من إشارة فولكلورية، بالاضافة للغول نجد إشارة غير مباشرة لعنتر بن شداد (الفارس) الذي ساق النوق العصافير مهراً لعبله، كما نجد إشارة للألغاز التي نقابلها في التراث الشعبي ويكون عقاب من لا يحلها الموت.

والحقيقة أن رمز الفارس والغول ليسا هما كل ما استقاه رجب من التراث الشعبي للاستفادة بما فيه من رموز، ففي “نقش على جدران كهف الخوف” نجد إشارة الى القصة الشعبية “شفيقة ومتولى”، وهى إشارة موفقة تماماً، خاصة أن قصتنا تتحدث عن الحرب، والقصة الشعبية مغزاها أن العار لا يغسله إلا الدم. وفى القصة نفسها يستخدم رجب رمز الفارس مرة أخرى ليجسد من خلاله خوفه، بعد أن يحيطه بعدة مفردات من التراث الشعبي لتعميق دلالته يقول:

“هل سيقوى الشاطر على حمل سيفه واقتحام الكهف، أم أنه لن يزيد عل مجرد عقلة صباع لا تكفي لسد المسافة بين أنياب أمنا الغوله؟”
وفي “صورة من قريب” يستخدم رمز الفارس للتعبير من خلاله عن العجز. يقول:

“هل أمتطى جوادى الشائخ، وأمتشق حسامى الصدئ، وأسعى إلى ذلك الغول ؟ وماذا سأفعل له ؟ لن أفعل أكثر من الصراخ في الفراغ: أيها الناس.. حذار”

والجدير بالذكر أن الغول هنا لم يعد العدو الإسرائيلي، بل أصبح التلوث الذى يهدد حياة الوطن. وفى القصة ذاتها يقول تعبيراً عـن المعنى نفسه: “أنا فاتتنى أحلام الفارس القديمة تخطتني وولت”.
إن استخدام رمز الفارس فى المقتطفات قد جعل الدلالة أعمق، لأن الخوف هنا ليس خوف الرجل العادى، إنه خوف الفارس، وكذلك العجز.

ولم يتوقف كاتبنا فى استخدامه للرمز والفولكلور عند تجربه الحرب وحدها، بل استخدمهما أيضاً للتعبير عن تجربة الحب، والمثل الواضح على ذلك نجده فى قصة “غابة الأشجار المتحجرة”، حيث يلجأ من جديد لرمز الفارس الذى يجئ هذه المره ليخطف حبيبته على جواده. كما يستخدم عدة أشياء أخرى، مثل: شخصية العرافة التي تتنبأ بالمستقبل، ويشبه الحب بأنه تميمة ( وهى أيضاً من وسائل السحر الشعبي). يقول البطل: “حملت معى تميمتك وذهبت صرت جندياً. رحت أحارب الخوف رافعاً في وجهه التميمة” كما يستعين في القصة ذاتها بحكاية شعبية عن مدينة فاضلة كانت لا تتعامل بالمال، ويكتفى أهلها بذكر النبي (عليه الصلاة والسلام) لشراء أى شئ، بهدف إبراز الطابع المادي المحيط به.

وفي رأيي أن استخدام الرموز التراثيه قد أفاد الكاتب كثيراً في الهروب من المباشرة والابتعاد التام عن هوة الخطابة. وهذا مما يحسب له بلا شك.
ويجب ألا نترك الحديث عن اللغة دون أن نذكر قدرة الكاتب على استخدام الصورة بشكل جيد فى بنائه اللغوى، مما أسهم في البعد به عن المباشرة للمرة الثانية، والمقتطفات السابقة جميعاً تؤكد هذا بما يجعلنا في غير حاجة الإيراد أمثلة جديدة.

(4)

واعتمد رجب على عدة أساليب قنية لعرض ما يريد، وأول هذه الأساليب: السرد.

وقد استطاع الكاتب من خلاله أن يتحرك في الزمان والمكان بحرية كاملة، وأن يبرز ملامح الشخصيات ويبرر الأحداث، ويوضح المغزى الذي يريد.

وإلى جوار السرد استخدم رجب أسلوب المونولوج الداخلي، وكانت لغته دائماً أقرب الى الشعر، وقام إلى حد بعيد بإبراز دقائق نفسية البطل، لأن المونولوج كان هو الصوت الداخلي الذي يفترض أنه لا يسمعه أحد سوى البطل نفسه.. وقد ذكّرنا المونولوج الداخلي -بصورته التي رأيناها عند رجب- بما نراه فى قصص تيار الوعى من استخدام ذكى لهذا الأسلوب.

إعتمد رجب –أيضاً- اعتماداً كبيراً على الحوار، ولا غرابة فى هذا، فأنا أعلم أن له محاولات مسرحية عديدة، وإن كان لم ينشرها. وقد كان الحوار غالباً سريعاً، مكثفاً، ولا يعيبه سوى أنه في أحد أجزاء قصة الفشل، كان متداخلاً بحيث لم يكن من السهل التمييز بين طرفيه. وقد استخدم رجب فى الحوار كلمات انجليزيه قليلة، كتبها بحروف عربية، كما استخدم كلمات عامية قليلة، مثل: يا بوي، وغيرها، لكنها كانت ضمن السياق العام للحوار، ولم تكن نشازاً، كما نجح في التعبير عن المستويات المختلفة للشخصيات بلغة سليمة، والمثل الحي على ذلك هو السائق في قصة “نقش على جدران الخوف” الذي نقتطف من حواره الجمل التالية: “طبعاً، كلكم نيام وأنا السائق الخصوصي”، “ربك عالم وشايف.. والمفتى قال أفطروا”، “يا أم هاشم.. ركبنا الجسر”، الخ.

تبقى بعد هذا عدة ملاحظات نرى من الضرورى ذكرها لتكتمل صورة المجموعة لدى القارىء، وهي:
(1) فيما يتعلق بقصة “الفشل”، التي أراد الكاتب أن يصور فيها عدم تواصل الأجيال من خلال علاقة أب يعمل ضابطاً كبيراً بالشرطة، وولده الذى يتوالى فشله في دراسته، لم ينجح الكاتب في إبراز عدالة قضية الابن، وكان الانطباع النهائي الذي خرجت به أن هذا الولد فاسد، مريض، سليط اللسان، يسب أستاذه منذ أول القصه دون سبب منطقي. وكل هذا ضد القصة.
(۲) قصة “فانتازيا الفئران الجبلية” التي تصور كابوساً أصاب البطل لكثرة معاشرته للفئران الجبلية فى الملجأ، هذه القصة كانت تحتاج لتصوير المكان فى بدايتها، والتمهيد للكابوس قبل الدخول إليه، بإبراز مشكلة سكنى الفئران للملاجىء بشكل مزعج، أما بهذه الطريقة التي جاءت عليها فقد أصبحت مبتورة البداية، وكادت تفسد القصة كلها مع أن الفكرة فيها رائعة.
(۳) قصة “نقش على جدران كهف الخوف” التى يسجل فيها الكاتب مهمة عسكرية نحو جنوب سيناء، انتهت نهاية سيئة، إذ توقفت الرحلة فجأة وبدأ الحديث عن معركة مع دشمة حصينة سقطت بشكل سريع، ثم انتهت القصة بشكل غير مقنع فنياً أو منطقياً.
(4) قصة “الدعوة إلى حفل رقص جماعي”، قصة عبثية، غير مفهومة على الإطلاق، ولا تتسق أبداً مع بقية قصص المجموعة من حيث الهدف أو أسلوب التعبير، وكان الأفضل لو لم تنشر في هذه المجموعة.

5) قصة “بلاغ عن مقتل البهجة” قصة جيدة من الناحية الفنية إلا أنها بعيدة عن التجربة الأساسية التى تعبر عنها المجموعة، إذ تبرز المجموعة – كما ذكرنا من قبل – تجربة مقاتل بين الحربين، وأثناء حرب أكتوبر وبعدها، وهى تجربة رغم خصوصيتها إلا أنها تعكس واقعاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ونفسياً لجيل بأكمله، أما التجربة التي تعبر عنها هذه القصة، وهى الزواج غير الموفق ومحاولة الإنجاب التي تعد قتلاً للزوجة، فلا تدخل في إطار التجربة
الأساسية التي تحدثنا عنها.

فيما يتعلق ببقية القصص كان رجب مبدعاً، ووصل إلى درجة عالية من التألق في عدة أعمال هي: “سياحة في غابة الأشجار المتحجرة”، “صورة من قريب لوجة حبيبتى”، «اختطاف»، “انزل”، فكل لفظ محسوب، والشخصيات ممتازة، واللقطات بارعة، والمعالجة راقية. وهذه جميعاً تؤكد أن كاتبنا يعد بمستقبل مشرق تماماً لو أخلص للقصة.

مقالات من نفس القسم