البهاء حسين
لا نحتاجُ إلى سيخٍ لتقليب الماضى
يكفى أن نتذكر
لكن من يردّ لى تلك السنوات، بين الطفولة والشيخوخة،
كى أتذكر
خمسون عاماً مرقتْ من أمامى كالرصاصة الطائشة
لا شىء يذكّرنا أننا عشنا
سوى طقطقةِ المفاصل
:
قريباً أكملُ السادسة والخمسين من العمر يا أمى
أظنك لا تعرفين سنى
لأن عدّاد الأم، قلبها
يحسب عُمر أبنائها بطريقة مختلفة
شبتُ يا أمى
لم تعد دقات القلب، كما هى
الدم الذى كان يجرى، بالأمس، عفياً فى العروق
تدفق البول فى خيط طويل متصل
البول الذى احتبس فى مثانتى، وأنا رضيع
وراح أبى يهرول وسط الحقول فى ظلمة الليل
وهو يرفعنى أعلى من رأسه، كأننى سماؤه،
ويدعو الله أن أمطر
تلك الأيام
طفولتى التى تداولتها الشوارع
كل ذلك لم يعد موجوداً
ما الذى يعزّينا عما نسيناه
عن قلبنا الخالى من الفرح
،،
ماذا بعد الحياة إلا الموت
هل من طريقة ثالثة
قولوا لى وأنا أعيشها نيابة عنكم
سبق أن عشتُ حتى امتلأتُ، ولم أعرف بعد كيف يمرّ الزمن
هكذا بسرعة الضوء
ما الذى يثنى الرصاصة عن القتل
الزمنَ عن الصربعة
،،
سأحكى لكم عن الحياة التى كنت ميتاً فيها
عن القبر
عن شباك التذاكر
عن الأسئلة التى وجهتها لى الملائكة وأجابت عنها يداى
:
أثناء الحب
تستخسرُ أن تُخرج حبيبتُك صدرَها بنفسها
تغارُ من يدها
تستخسر أن تفوتك لمسة، فتمد يدك وتخرجه
:
تفرح العصافير بالأشجار
أكثر منا
لا شىء يسعد الطائر، مثل فراره من القفص
،،
وُجد الحب، لينكّل بنا
وُجد الزمن، لتحصيل الفواتير
خُلقت الأصابع، كى تقول الحقيقة
،،
ما الزمن الذى تستغرقه رصاصة، كى تستقر فى القلب
لم أحبّ ” توم كروز ” سوى مرةٍ واحدة
فى دور القاتل المأجور*
كان مقنعاً مثل مسدسٍ
وكنت أتفرج عليه، كأننى رصاصة
:
لا أحد يروى القصة كما يرويها الذعر
فى العيون
الأيدى التى تستجدى كاتم الصوت
القلبُ الذى ” يُميته صوتُ الرصاصة قبل أن تصل إليه ” **
الفم ينسى
يكتفى بالشهقة
لكنّ الأيدى تتذكر
أتذكر جيداً يا “إيمان ” ما حدث بيننا طوال سبع سنوات
صوبتُ خلالها قبلاتى المأجورة على زوجك الغائب
أصابعى تجترّ كل شىء، كأنه ما زال يحدث
ولهذا أنا خائفٌ من أصابعى
أتلذذ بكل شىء، كلما تذكرته ، لكن سرعان ما أندم
ما فائدة اللذة إن عكّرها تأنيب الضمير
:
يعرف ” توم كروز ” كيف يقتل
أعرف كيف أنسى روحى فى فم حبيبتى
حين أقبلها
أعرف الجسد
الخزنة حين تنفد منها الذخيرة
الزناد حين يطلق تكات فارغة
أعرف أن ذراعك يا إيمان كانت بندقيتى فى مواجهة الوحدة
لكل شىء نهاية يا حبيبتى
إلا الوحدة
خالدة
،،
على كلٍ
ما الذى يمكن أن نفعله حيال الزمن
سوى أن نجاريه
أن نقبل، كل يوم أكثر
بأن صوتنا سوف يتلاشى
:
القبلة والرصاصة
كلتاهما تخرج من الفوهة نفسها
تذكرين يا إيمان اللوحة التى أرسلتُها لك فى الماسينجر
لحبيبين عاريين يتّحدان فى واحد
كالزناد والإصبع
تذكرين الفيديو الذى أرسلته لى
عن فرسة تستدعى حصاناً بصوتها
بحرقتها
باحتياجها
باحتياج كل منا للحبّ
،،
السماء هنا مطلية دائماً بالألوان
من سطوح البيت فى “المقطم “
يمكنك أن ترى سماء أخرى
غير تلك التى تُظلّ القاهرة من تحتك
فوق الجبل
تتحدث السماء وأنت تصغى
يتحدث الماضى
القاتل المأجور الذى كنتُ أراه، هناك بالقرية فى “سوهاج “
وأنكمش فى طفولتى
القاتل الذى ظل ابنه يسرق الحلوى منى، أثناء البيع
يخبىء القطعة، تحت كُم الجلابية الواسع
فى باطن اليد، ويخرج أصابعه من الصينية فارغة
الابن الذى شرح لى بعد سنوات كيف كان يسرقنى
الابن الذى رأيتُ فيه أباه
كانت الحلوى عهدة
ما الفارق بين الابن وأبيه
بينى وبين القاتل، بين القبلة والرصاصة
لماذا أصرّ على التحديق يا “إيمان ” فى الماضى
لماذا سميتنى بأكثر أعضائك حميمية
وأنا صدقتُ أن هذا هو اسمى منذ ميلادى
أكان لا بدّ من تقشير الكلمات
مثلما نقشر إصبع الموز
أكان لا بد أن أجلس على حافة الجبل، وقت الغروب
وأعوى، على المدينة
مثل ذئب
،،
صباح الخير يا أمى
فرصة، قبل أن تموتى، بعد عمرٍ طويل
أن أجرجرك إلى كل قصيدة
كل ندبة
كما كان أبناء عمى يجرجرونك، وأنا طفلٌ، فى التراب
فرصة، قبل أن تموتى
أن أخبرك عن التراب الذى ما زال عالقاً بى من يومها
ولم يكن بوسع طفولتى أن تخلصك من أيديهم
لكننى الآن، فى الشيخوخة، أصوب كلماتى عليهم
وكلما أخبرتنى عن واحدٍ مات منهم
صدقتُ أن كلماتى طارت آلاف الأميال وأصابته فى مقتل
صرتُ شيخاً يا أمى
لكننى ما زلتُ أحلم أن أحملك، على ظهرى
أن أذهب بك إلى الله
أن أطوف حولك سبعة أشواط
أن أرجم حزنك بالحجارة
ياه
كيف كبرتُ هكذا، دون أن يأتينى النهر بجثث أقاربى
:
نحن قبلات طافية فوق الماء يا “إيمان “
كورد النيل
الحياة مركب قديم
والقبلة المسروقة ليست شراعاً يا حبيبتى
كى نعبر النهر
،،
ما الذى يمكن أن يُخبرك به الشيب
ما الذى قالته لك الحكمة حين وصلتَ إليها
ما الذى يقوله الجبل
ما الذى نملكه تجاه الحياة
سوى أن ننفخ الدخان من الفوهة
:
مرّغتنى الشهواتُ فى التراب يا أمى
وليست لى حيلة أتفادى بها ” إيمان “
لا قِبل لى بالتذكر
أنا تعبتُ
تصبح الحبيبة أماً مع الوقت يا أمى
لكن أرجوك ادعى لى، كى تخرج منى
لأننى كلما تذكرتُها
خاصمتنى يداى
ووشت بى للمقبرة .
…………………………
* فيلم ” Collateral “
** العبارة مقتبسة . بتصرف





