وأنا أكتب الشعر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شادن دياب

لم تكن باريس في ذلك المساء تشبه نفسها. المطر ينزل بخفة، يعرقل الوجوه المزدحمة، يدغدغ فضولهم. الناس يمشون بسرعة في المترو الباريسي، يهربون من شيء لا اسم له. في المترو، رجل يصرخ في وجه امرأة مسنّة، لم يتحرك أحد. وفي الحي اللاتيني، شابٌ ينام على الرصيف، والمارّة يعبرون فوق ظله. دخلتُ شقتي، رميتُ معطفي بلا اكتراث، تهالكت على الكرسي، غفوتُ للحظات من التعب. أيقظني ذاك الصوت الذي كنتُ أسمعه منذ عامين أو ربما ثلاثة. في شقتي على تخوم باريس، كنتُ أعرف تماماً أنّ طفلاً ما كان يُضرَب بشدة.

لكنني وقتها لم أكن قادرة على فعل أي شيء. فقد أخبرتُ مسؤولي المبنى، واتصلتُ بالشرطة عدة مرات:
«هناك شيء يحدث… هناك طفل يستغيث. الصراخ يوجع قلبي، ولحظات العجز قاسية».
وقفتُ أمام البوّاب وقلت له:
«هناك طفل يُضرَب».
نظر إليّ نظرة تُسقط كل شيء، أخذ كلماتي ووضعها في خانة الجنون أو المبالغة، وتعامل مع كلامي قائلاً: «لا يوجد طفل يخرج من هذا المكان».
أشاح بوجهه يغمغم: «أوف… يقولون إنها شاعرة».
وكأن الخيال حين يُمنَح فرصة ليعبر وراء الجدار، يصبح تهمة لا تُغتفر.

هدأ الصوت قليلاً. قلت لنفسي: ربما اعتاد الناس على ملايين أصوات الأطفال التي تموت تحت القنابل… اعتادوا على صراخ يأتي من غزة، أو من السودان، من اليمن، أو من أي بقعة تحترق على الأرض.
فصار صراخ طفل هشٍّ في ليلة باريسية باردة مجرد صوت إضافي يُخلط وسط آلاف الأصوات التي لا تجد من يصغي لها.
في مدينة مثل باريس، ما قيمة صرخة طفل مجهول؟
وما قيمة أن تأتي امرأة، شاعرة، من أقاصي الشرق الأوسط، لتقول: «هناك طفل يصرخ»؟

وبعد عام، اتصلتُ في الليل بالشرطة، لعلّ وعسى: «الطفل يُضرَب… يُضرَب».
نفس الإجابة. «نعم، طيب… ماذا؟» والصوت يتكرر.
أسمع صوته المرتجف يقول: «لا… لا تقترب مني». صوته الصغير، المعلّق بين الطفولة والمراهقة، يخترق قلبي. زاد الألم لأن ابني كان ينام بأمان في الغرفة المجاورة، بينما طفل آخر يصرخ في الليل.
كنتُ غير قادرة على النوم، أسقط من سريري كما يسقط الحائر من حلمه.

أرسلتُ رسالة أيضاً إلى اتحاد الملاك في البناية قبل سفري. آلاف الأفكار دارت في رأسي. أقول لصديقي الكاتب، ونحن نتبادل الحديث على أطراف الليل في مقهى صغير في القاهرة: «ماذا أفعل؟ إنني خائفة». كنتُ أحكي له عن هذا الطفل، وأنا على بعد آلاف الكيلومترات منه.
قال لي صديقي يومها:
«تعرفين… لن يحدث شيء إلا إذا وقعت مصيبة. ربّنا يحميه، لكن الأمور لا تتحرك إلا بعد الكارثة».

القاهرة… هذا «الكاركتر» أراه على الفيس بوك يضحكني، نفسه رأيته في مجلات كثيرة، في صور كثيرة: أشخاص بآذان واسعة، على الباب يستمعون لكل شيء، يلتقطون التفاصيل الصغيرة بذكاء ودفء.
كنتُ دائمًا أجد في ذلك شيئًا جميلاً… شيئًا يواسيني.
أقول لنفسي: يا لروعة مدينة تعرف كيف تنصت لنبض الناس. نظرات البوّابين؛ أعرف تلك النظرات جيدًا، نظرات من يعرف الداخل والخارج، من يراقب كل شيء بصمت.
إذا توجّعتِ… يلاحظون.
إذا ابتسمتِ… يلاحظون.
إذا مررتِ في ساعة غريبة… يلتفتون.
حتى حزنك يصبح مرئيًا، المدينة كلها تُصغي إليك.

باريس… صمّاء، لم تسمع صراخ طفل صغير في الليل.
أخاف دائمًا من تلك الليلة؛ أن يأتي اليوم الذي أتبلّد فيه… وكأنني اعتدت الألم. وأخاف أيضًا «الكارثة» التي قال عنها صديقي…

وقع المحظور.
ليلتها، على الهاتف أقرأ الشعر وأتذوق الكلمات، وفجأة جاء الصوت… صوت منشار، وصراخ امرأة، وصوت الطفل ذاته يقول: «ابتعد عني! لا أستطيع!».
أقفلت الهاتف… لن أستطيع. الصوت أعنف…
بحثت عن رقم الشرطة، واتصلت بهم في جوف الليل وقلت: «لن أدعكم هذه المرة. هناك كارثة».
أَلصقتُ هاتفي بالجدار وأنا أصرخ: «اسمعوا!».

بعد قليل، دخل رجال الشرطة. كانوا طوالاً، بحجم الغرفة نفسها، وجعلوا المكان يبدو صغيراً جداً. سألوني:
«في بيتك؟»
قلت: «لا… هناك»، وأشرتُ للجدار الفاصل.
بحثوا عن مصدر الصوت، لكن كل شيء كان قد هدأ فجأة.
في الليل، لا يبقى إلا الصمت.

بعد ساعة أو ساعتين، طرق شرطي بابي وقال:
«هناك تحريات. حصلت جريمة هنا. هناك دخول غريب، آثار دماء، بقايا منشار كهربائي. سيتم ختم المكان بالشمع الأحمر».
سألته: «والطفل؟»
لم يجبني.

دخلتُ وأنا رأسي مُلقى بين قدميّ، أشعر بالفشل. لم يصدقني أحد منذ عامين، ولم يسمعوني عندما قلت إن طفلاً يُضرَب. لم أستطع إنقاذه.
قالت التحقيقات إن الطفل الذي كان يتكلم الفرنسية طفل مهاجر، وإنهم قد يستدعوني للشهادة. لكنني أسأل نفسي دائماً:
كيف عاش ذلك الطفل؟ كيف لم أستطع أن أنقذه؟

الجيران مستغربون… كأنهم لم يسمعوا شيئاً. صمٌّ بكم.
وأتذكّر واجهة متجر تعرض ثلاثة تماثيل صغيرة للقرود: أحدها يغطي عينيه، والثاني يغلق أذنيه، والثالث يشدّ على فمه.
بدا العالم يتقن تلك الطقوس.
ونحن نسخة منها… ربما نسخة أصعب.
وأنا أكتب الشعر.

مقالات من نفس القسم

ali reda zada
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قصة صورة

mohammed Al fakharany
تراب الحكايات
محمد الفخراني

السَّهَر