د.خالد محمد عبدالغني
تناولت في كثير من الدراسات ما قدمته الأديبة الدكتورة عزة رشاد من أعمال روائية وقصصية وتبين فيها مدى انشغالها بقضايا المرأة المصرية في الريف أو المدينة ، وكيف بدت شخصية المؤلفة داخل تلك الأعمال الإبداعية واضحة. فعلى غير عادتها حاولت الاختفاء في هذه الرواية فبدلا من أن تكون إحدى بطلاتها أو تكون الراوي اختارت أن تتخفى لاشعوريا وراء شخصية ناجي ابن نعيمة ليصبح هو الراوي ومكتشف الشخصيات التي كتبتها نعيمة لتقول لنا المؤلفة الدكتورة عزة رشاد إنها الناجي الوحيد من هذا المصير المؤلم والمأساوي لبطلات الرواية وللشخصيات الثانوية وما دلالة اختيار الإسم “ناجي” إلا للتعبير عن النجاة ، ولكن لماذا كانت النجاة؟ لأن تمسكها بالهوية الذاتية والهوية الاخلاقية وبقائها داخل الوطن ورفض الهجرة لأوروبا وأمريكا ساعدها على إيجاد معنى لحياتها فحفظت حياتها هانئة ومؤسسستها الزوجية قائمة وكيان أسرتها باق، هذا الذي حين افتقدته شخصيات الراوية سواء الرجال أو النساء أصابها الخواء الروحي الذي مهد الأرض لانهيار الشخصية والمعاناة والألم النفسي والبدني. وحتى ناجي لم يخلو من المعاناة والألم . فلديه رغبة في الانفصال عمَّا يربطه بوالدَيه، أو بأيِّ قيمة بالحياة، يقول ناجي: ”منذ فترة بعيدة، اتخذت قرارًا بألا صلة لي بأي شيء يخصكم، بأني لن أحزن ولن أفرح، إن اكتشفت أن أبي ــ أو أمي.. سيان ــ مجرم، أو حتى قديس، ما من فرق. اتخذت قرارا بألا أنظر ورائي وألا أفكر في شيء ولا في أحد سوى نفسي، ففي كل المرات التي عانيت فيها؛ لم أجد اهتمامًا أو مواساة”.
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصبو دوما ليضفى على حياته معنى، وعلى وجوده قيمة. وكلما كان لحياته هدفا أو غرضا يسعى اليه ،كلما كانت لحياته قيمه ومعني . وتلك حقيقة تؤكدها مسيرة الإنسان عبر الزمان . وقد أضفى الرواقيون على الحياة معنى من خلال دارستهم للمعني والقيمة. ومن أعماق اليأس واللامعنى، جاء فيكتور فرانكل بإيمانه بالمستقبل، وإيمانه بمعنى الحياة، بين أمل في الحياة ويأس منها، بين إيمان بعدمية الحياة لخلوها من المعنى، وبين إيمان بامتلاء الحياة بالمعنى. ومن جانب آخر، هناك ظاهرة ترتبط بفقدان المعنى في الحياة، وهو ما أسماه ف ا رنكل بخبرة الفراغ الوجودي فالبحث عن معنى الحياة ظاهرة وجودية ملازمة للوجود الإنساني طوال مراحل حياته بغض النظر عن عمره وجنسه وثقافته . والخواء الروحي وهو حالة من الملل والسأم يشعر من يخبرها بأن الحياة تمضي بغير معنى أو هدف، وأن حياته راكدة مثل بحر آسن، ومملة تخلو من أي نبض ينطق بالحياة وبالمعني. كما أن فقدان المعنى يعني أن الحياة لا معنى لها، وأنها تسير وفق منطق غير معقول، ومن ثم يشعر الفرد أن حياته عبث لا جدوى منها، فيفقد واقعيته، ويحيا نهباً لمشاعر اللامبالاة. والخواء الروحي ليس مرضاً عقلياً أو انفعالياً، ولكنه حالة إنسانية في عصرنا الراهن ويصاحبها الكثير من الأعراض النفسية التي يتمثل بعضها في القلق والاكتئاب واليأس من الحياة، واليأس من القدرة على التواصل مع الوجود . وهناك أقنعة مختلفة يبدو بها.ففي بعض الأحيان يكون هناك تعويضاً لإرادة المعنى المحبطة بإرادة القوة ) ارادة المال ( أو إرادة اللذة. وهذا هو السبب في أن الإحباط الوجودي ينتهي غالباً بالتعويض الجنسي، وأن اندفاع الطاقة الجنسدية يصبح متفشياً في حالات الخواء الروحي ومما يؤكد ذلك أن الإنسان يسعى لملء هذا النوع من الخواء من خلال استخدام بعض الوسائل التي تحقق له نوعاً من الإشدباع على المدى البعيد مثل الحصول على اللذة مثل شره الطعام، ممارسة الجنس، أو العيش في مستوى معيشي مرتفع، أو الحصول على المال، وقد يسعى إلى إملاء حياته بالعمل، وقدد نملي هذا الخواء بالغضدب والكراهية، وقضاء أيامنا في محاولة تدمير ما نعتقد أنه يؤلمنا.
وتعرف الهوية بأنها المجموع الكُلي لخبرات الإنسان، وتتكون من: هوية الأنا وهوية الذات، وترجع هوية الأنا إلى تحقيق الإلتزام في بعض النواحي كالعمل والقيم الأيديولوجية والسياسية، أما هوية الذات فترجع إلى الإدراك الشخصي للأدوار الإجتماعية ؛ لذلك يعتقد بأن الأزمة الرئيسية التي تواجه الإنسان هى أزمة البحث عن الهوُية في ظل اختلاط الأدوار التي يتطلع لاجتيازها، الأزمة هنا تعرف بأنها نقطة تحول في حياة الإنسان، وليس المقصود بالأزمة كارثة تلحق بالفرد وتهدده، بل هى مصدر لقوته وتكامله، وتوافقه، وهنا نشير إلى خطورة تراكم الخبرات المؤلمة في حياة الإنسان؛ لأن ذلك من شأنه أن يُشعره بالقهر في ظل الضغوط الحياتية؛ على اعتبار أن البدائل السلوكية المتاحة لتجاوز الأزمة تتلخص في: الإنسحاب أو اللامواجهة على أمل أن يجد سبيلًا آخر يجنبه تحمل أوضاعه أو الإستسلام للأمر الواقع والتكيف معه ظاهريًا، مع النفور منه ضمنيًا أو المواجهة بالتمرد والعدوان.ويرتبط الحواء الروحي بالاكتئاب “حالة من عدم القابلية للتأثر بمثير أو بأنواع بعينها من المثيرات، مع مبادأة (ذات عتبة) منخفضة، وأفكار تشاؤمية، وقد يكون عرضاً في عديد من الأمراض العقلية ومرض ذو عرض جبلي يصاحبه الحصر وإنحلال الذات واضطراباتها تجاه الشهية والنشاط الجنسي والنوم والعمل. وكلا التعريفين يفترضان أن الاكتئاب إنما هو حالة وجدانية في متصل من السوية إلى اللاسوية. و ديناميات الاكتئاب إنما تقوم على حاجات زائدة من الفمية والنرجسية والثنائية، وأن الميكانيزم الدفاعي الأساسي لدى المكتئب إنما هو استدماج وما يصاحبه من سادية موجهة نحو الذات وفقدان لتقديرها، وهو “حالة من الألم النفسي يصل إلى ضرب من جحيم العذاب مصحوباً بالإحساس بالذنب الشعوري، وانخفاض ملحوظ في تقدير النفس لذاتها ونقصان النشاط العقلي والحركي والحشوي”. ونميل إلى القول بأن الاكتئاب “حالة مرضية تمثل نكوصاً إلى مراحل مبكرة من مراحل النمو وتتسم بحل طفلي في مواجهة الاحباطات التي تختلف درجتها تبعاً لدرجة النكوص ومراكز التثبيت وهى تتسم بانسحاب المريض من الواقع وفقدان للقدرة على الحب ، مع إحساس بفقدان تقدير الذات مصحوبة بمشاعر الذنب والتأنيبات والإهانات الذاتية ويتم فيها اختيار الموضوع على أساس نرجسي حيث يمثل الاستدماج الميكانيزم الدفاعي الأساسي في الاكتئاب وتعد اضطرابات النوم أكثر الأعراض شيوعاً في مرض الاكتئاب فيعاني المريض من الأرق الشديد الذي يحيل حياته ألماً دائماً ويختلف نوع الأرق حسب شدة المرض فمن الصعوبة في بدء النوم والتقلب في الفراش حتى الفجر إلى القلق والأرق طوال الليل مع وجود الأحلام المفزعة والكوابيس وأحياناً ينام المريض ويصحو في الصباح مرهقاً متعباً وكأنه لم ينم ويستيقظ في الفجر أو قبله بعد فترة نوم قليلة مع صعوبة في العودة للنوم مرة ثانية وهذه الفترة يعيشها المريض كئيباً حزيناً حيث يعيش في يقظة وأرق بينما الآخرون نيام وتقل بوجه عام كمية النوم لدى مريض الاكتئاب ولا يعد الأرق مرضاً في ذاته إلا إذا أصبح مزمناً ولكنه في الغالب يكون عرضاً للقلق والاكتئاب والشعور بالإثم والصراع بين الرغبة والقيم الأخلاقية والخوف من العقاب وكثرة الهموم والضغوط، وفى بعض الأحيان يكون الأرق بسبب تنبيهات خارجية كالضوضاء والبرد والحرارة أو هموم شعورية حادة أو ترقب مشحون بانفعالات لاذة أو مؤلمة أو تهيج جنسي بدون إشباع أو غضب مكبوت
تحكي الرواية عن رحلةحياة ومصير مأساوي لأربع سيدات هن:
الدكتورة نعيمة التي تزوجت من المناضل الثورى حسام إدريس فقَدْ أحَب نجوى أيام الجامعة، ثم انفصلا، وتزوج من نعيمة صديقتهما، لم يتحمل مسئولية شيء، يقول عنه ابنه ناجي: ”مصاريف دراستي وكسوتي تدفعهم أمي، لأن أبي يعيش بوهيميًّا من أجْل الإبداع”.، ولكنه لم يعد مناضلًا أو ثوريًّا حقيقيا ، والابن ناجى منفصل عنهما فى عالمه الخاص به . تتجه نعيمة لإعلاء رغباتها بحب ورعاية القطط، والسعي لإقامة مشروع خيرى لحماية البنات من الانحراف والهلاك وتصاب بالاكزيما مرض جلدى نفسي، وتدخل في غيبوبة مرضية وتبقى على حافة الموت. لدينا في التحليل النفسي حالة نموذجية لأمرأة ترعى كلبا في بيتها وكانت قد عزفت عن الزواج لرعاية اختها الصغرى وحين خطبت اختها وتزوجت وتركت البيت تصادف أن خرج الكلب ولم يعد فاصيبت تلك المرأة بالاكتئاب على فقدان الكلب ، والحق انها اصيبت بالاكتئاب لفقدان اختها التي ضحت من اجلها وتوقعت ان تبادلها التضحية ولا تتزوج مثلها ولكن عندما تزوجت الاخت الصغرى وتركت البيت تأجل اكتئاب المرأة حتى كان فقدان الكلب سببا ظاهريا لتقول في قرارة نفسها عن اختها “انت مثل الكلب الذي خرج من البيت ولم يعد ” ، وفي الرواية الحالية تقول دكتورة نعيمة في اول مشهد في الرواية ” منذ ثلاثة أيام اختفت قطتي ، لا اعرف كيف خرجت دون أن أراها ؟ دون أن انتبه، خرجت ولم تعد ، بحثت عنها حول البيت وحتى حدود المترو والطريق السريع ، ولا أثر لها ، انتظرت عودتها ، دون جدوى باختفائها فقد البيت معناه ، فهي كانت الشريك الأخير ، الذي يمنحه المعنى . فالبيت حسبما أستشعره ليس مجرد جدران وقطع اثاث ، بل نهوض من الفراش رغم التعب ، لإعداد الطعام لشريك ما ، من أجل رعايته وتقديم نوع من العون أو تلقي هذا العون منه البيت يعني المشاركة”. هنا فقدت نعيمة المعنى بافتقاد الشريك – الزوج والابن – وصارت وحيدة إلا من القطة فهي بحسب ما يقوله ابنها ناجي مطلقة إذ ينقل كلام زوجها قائلا :” قال كلاما كثيرا عن أنه أحبها بصدق ولولا ذلك لما احتمل العيش معها ، وانفصلا منذ سنوات بسبب اختلاف طبائعهما واختلاف نظرةكل منهما للحياة” . وبدأت تعاني من الإكتئاب ومن أهم ملامحه الخواء الروحي والشعور بالوحدة النفسية والقلق فتقول نعيمة :” بعدما صار غيابها – تقصد القطة بنوتة – أمرا واقعيا تملكني الخواء ، يبدو أنني خفت من انجراف تفكيري بسرعة نحو الجهة الاخرى ، فيجدونني معلقة في انشوطة بسقف الحمام ، أو متدلية من بين حبال الغسيل”. والتفكير في الانتحار من أهم مؤشرات تشخيص اضطراب الاكتئاب ، بالإضافة إلى الخواء الروحي الذي عبرت عنه ، ويعبر ناجي ابن نعيمة عن أعراض اكتئابها فيقول :” ضميرها المعذب دونما ذنب عادة ما ينقح عليها ويكدرها فتكدرنا هي بدورها ، تعود بالقطط الحبلى تملأ فراغها العاطفي دونما اهتمام بالضجيج والفوضى “. وسيطرة الأنا الأعلى أو ما يعرف بالضمير من ديناميات الإكتئاب أيضا حيث يعذب الأنا ويؤنبه دوما وعلى أتفه الأفعال أو المشاعر. ويقول ناجي عن أمه نعيمة: ” تعذب أمي نفسها حرصا على تناولي غذاء صحي، تلح علي كأننني طفل ” . ثم يعبر عن خوائه الروحي هو نفسه بقوله :” ما الفرق بين أن أعيش قليلا أو كثيرا ؟، لماذا أعيش أصلا ؟، ما معنى حياتي؟ ، أو حياة أي أحد ؟، نحن كائنات بلا معنى في كل الأحوال “. ، لا أريد أن يحاول أحد اقناعيي بأن ما نعيشه هو عالم حقيقي ، يستحق السعي من أجل تحسينه ، أو أن لهذه الحياة معنى ، أو أن لوجودنا غاية “. وتصف نعيمة نفسها فتقول: ” أما جرح الضمير فيلتئم ببطء رغم أنني بكل الحسابات بذلت لأجلهم – القطط – جهدا لا يطاق ، أحيانا ألوم نفسي على استسلامي لهذا الشعور الحقير “تانيب الضمير ” الذي طالما سرق مني راحتي ومرحي الفطري ،كيف تركت هذا المسلسل البائس يستنفذ جهدي “. ويترافق مع الإكتئاب مرض آخر هو الاكزيما ذلك المرض الجلدي الذي يصنف ضمن الأمراض النفسجسمية وهنا تتبادل الاعراض والتأثيرات فتؤدي الاكزيما إلى مشاعر الدونية واليأس ويؤدي الاكتئاب واليأس إلى أعراض الاكزيما فتقول نعيمة: ” سئمت الحياة مع الاكزيما فيما يخجلني معاناة وصبر جدتي ثم أمي مع سرطان الرحم ، لا أريد الاستمرار في العيش رهينة للمخاوف ، لهذه الرجفة الحقيرة بأعماقي أكره الانتظار مثلهما ، موت مسبوق بعذاب لا يوصف ومذلة ، أريد أن ألقي بنفسي في أتون جحيم يلهيني لابد أن أتفارق عن نفسي عم اكزيمتي ، لأنجو ، أتفارق عن غروري ورغباتي “. ثم تحاول نعيمة التسامي والإعلاء عن هذه الأعراض واللآلام بعمل خيري تقوم فيه برعاية الفقيرات والمحتاجات فتقول: ” لكن أناي الشرهة تريد أن تكبر . أن تقوم بعمل مجيد لتبقى ذكراها في النفوس ويذكرها الجميع باحترام وتقدير ، ويدعون لها بالجنة صديقاتي الثلاث حققت كل منهن مجدها الخاص ،سافرن وعملن ونجحن . لذيذ هو النجاح وماذا عني ؟ انا هنا حيث لا فشل ولا نجاح لا موت ولا حياة وفوق ذلك أعاني من الغربة مثلهن وربما أكثر . أريد شيئا مختلفا أن أخوض هذه التجربة ساستميت لكي أحقق شيئا ذا بال قبل أن أموت ، عملا يمنحني ما أستحق من تقدير سأفعل حتى لو كلفني حياتي ، كده كده رايحة”. حتى إن نسمة ضرغام تقول عن نعيمة: “نعيمة أم قلب رهيف ستموت حزنا على قطتها ، أو من فرط وحدتها”.
ونجوى، الفتاة القروية التي تزوَّج والدُها بمجرد وفاة أمها فكرهته لذلك الفعل كرها ظل كامنا – ومؤثرا- في أعماقها – لاشعورها- كشفت عنه علاقتها بالمعالجة النفسية التي تتردد عليها؛ وعاشت على الهامش مع زوجة أب، فتشعر بالانكسار بالرغم من شجاعتها وقدرتها على المواجهة، والتعبير عن ذاتها والآخَرين ، ظلت تطاردها صورة مختلسة مع حبيبها، أفسدت حياتها فى الإسكندرية حين كانت تدرس بالجامعة . فلما تزوجت وانتقلت إلى نيويورك، اقتصر دورها بعد سَفرها لأمريكا على علاقات عاطفية فاشلة، إلى أن تزوجت عبد الرحمن؛ الأصغر والأقصر منها، وأنجبت منه نورا، وغرقت في حُمى الشراء وحياة التسلع؛ تعويضًا عن اليُتم والحرمان، وشعور بفراغ روحي كبير، تعيش في نيويورك لكن أحلامها، حتى في يقظتها، بجدتها سندس، التي ربَّتها، تختفي ابنتها، لتحلم نجوى إنها قتلتها بيديها :”أرى نفسي بوضوح فاجر أذبح ابنتي مشهد أحسه آتيا من تلافيف الذاكرة لا من عتامة الكوابيس”.، كما تقول نجوى لزوجها: “لن نكون سوى أنفسنا، لسنا مثل العرب الذين يعيشون هنا ويرفضون العودة قطعيًّا. وبنفس الوقت يضاعفون ليل نهار نقمتهم على أمريكا. لسنا أيضًا متعالين أنانيين كبعض الأمريكيين، أنت ولدت هنا. وأنا أسعى لأكون ابنة لهذا البلد وقوانينه المنصفة. إلى حد كبير. سأعيش وأموت وأدفَن هنا.”. يعيش العرب في الغرب لكنهم يحملون الشرق بتقاليده ومنظومته الثقافية؛ وهو ما يضاعف شعورهم بالضياع. لا يستطيعون تجاوُز حدودهم النفسية الداخلية، خاصة عندما لا يحدُث اندماج حقيقي بينهم وبين المواطنين الأصليين، ورغم كل دعاوى الحرية، وتساوي الفرص في المجتمعات الغربية، فإن الواقع، وغطرسة الغرب وتعاليهم، يجعل همَّهم الأكبر مجرد الحياة وتوفير الطعام”. وأخيرا تركت ابنتها المنزل للزواج بحبيبها الأمريكى في تعبير صريح عن صراع الاجيال والهوية لدى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين ، فأصبحت نجوى مريضة نفسية تعاني من الزهايمر مع أعراض فصامية وتتلقى العلاج عن معالجتها النفسية التي أقامت علاقة طرحية سلبية مع المعالجة بحيث تسقط عليها العلاقة المتوترة مع الأب في صغرها على المعالجة فتصفها بمحاولتها – أي المعالجة – استنزاف أموالها – . :”صارحتني د.مارلين بأمر ذاكرتي المنحرفة التي تجمع فتات الذكريات وتصنع منه مزيجا من زائفا ، اضطرابات الذاكرة كثيرة ومعقدة ، تلقنني نصيحتهابضرورة أداء تمارين التذكر وأهمية أن أكتب كل ما يخطر على بالي، الضياع حدث بالفعل مثلما أنظر الآن إلى زوجي ولا أعرفه، أقف أسفل البيت أتامله طويلا غير واثقة أنه بيتي حتى بعد أن أجد مفتاحه في حقيبتي أدور بين حجراته لا أعرف أيها لي “. وتعاني أيضا من الخواء الروحي فتقول :”أمضي في شوارع منهاتن المزدحمة يتلبسني عنف غامض فيما أبحث عن ذات أخرى عن واحدة ليس اسمها نوجا لم تخسر حياتها مرتين ، لا يطاردها كابوس ترى فيه نفسها تقتل ابنتها بيديها”. ومن أعراض الخواء الروحي فقدان المعنى المؤشر على الاغتراب أيضا تقول :” أشعر بأني فقدت المعنى منذ زمن بعيد فقدت الرؤية أقطر بعيني مضاد الالتهاب وأظل مشوشة فلا أدري من يتكلم “. ومن الأعراض كذلك كثرة التسوق فتقول عن نفسها :” تتحولين إلى مدمنة للتسوق واقتناء الأشياء ، حقائب وأحذية وعطور وأنتيكات “.
ونادين، الفتاة عاشقة الغناء والموسيقى، لم تستطع أن تكون المطربة التي تمنت، وتعاني أيضا من الخواء الروحسي والنفسي وفقدان المعنى ومن اعراضه حب جمع المال تقول عن نفسها :” تحبين المال بشكل رهيب “.، اكتفت بدورها كزوجة وأم لثلاثة من الأبناء، انتقلت مع زوجها للكويت ثم باريس، تدبِّر الحياة وتقتصد بتشجيع من زوجها، الذي قلَّص وجودها في هذه الحدود الأسرية والاجتماعية، ينتقل ابنها للعيش بعيدًا عنهم؛ اعتراضًا على أسلوب حياتهم، الذي لم يفارقوا فيه ثقافتهم، التي حملوها معهم في باريس، أجسادهم هنا على الأرض الباريسية، لكن وعيهم وثقافتهم في الإسكندرية، تعاني هي وابنها من أزمة الهوية فيقول لها ابنها :” عايزين تقييدوا حرياتنا وتفرضوا علينا أفكاركم القديمة . فترد عليه :” أنا مانسيتش إننا عايشين هنا لكن إنت اللي نسيت ثقافتنا الأصلية حتى المسجد قاطعته. فيقول لها : “لما ثقافة فرنسا مش عجباكم جيتوا ليه ؟ كنتم تخليكم في الازاريطة أو السيوف ؟. وتختم نادين قضية الصراع الفكري بقولها : “أنا ابنة ثقافة مبنية على الالتزام الأخلاقي والديني”. ولكن سيطرة الصراع الفكري تعاودها دوما فتقول: ” باريس عاصمة الكرنفالات في العالم فرح، وبذخ بغير حدود ، كنت أبكي في داخلي وأحسد هؤلاء الفرحين ،ليتني مثلهم”. فقررت العزلة عن الجميع، الأسرة وأصدقاء الحي، وحرصت على الانشغال بذاتها . ويزداد تمرد الابن على أبيه فيقرر أن يشكوه في قسم البوليس فتقول له :”تشكو أباك كيف تفعل هذا بنا يا ولدي” . ويقول الأب عن الابن: “ابنك صايع ، وبيسرق ومدمن مخدرات يعني يعمل أي حاجة…. يقتل كمان “. وتزداد مشاعر الخواء الروحي فتقول عن نفسها :” أكاد لا أعرفني في انقسامي بين ابني وزوجي وابنتيَّ تضيعان مني “. وكذلك تعاني من اضطراب النوم كتاريخ مرضي طويل فتقول تصف نفسها: ” منذ طفولتي أعاني من اضطرابات النوم وأعراضها المختلفة، عدد ساعاته، وتقطعه المفزع ، أصحو مرهقة، بجفنين متورمتين، ودماغ مشوش، ومزاج معتل “. يقرِّر زوجها سَفرها بابنتَيه إلى الإسكندرية؛ خوفًا من ارتباطهما بعلاقات متحررة في باريس وهو ما يرفضه ويخشاه في آن فصراعه الفكري ممتد وله جذور عميقة برغم حياته في مجتمع باريس المتحرر ، وهو ما يشعِرها إنها عاشت حياتها كقيمة هامشية، يحركها زوجها، دون مراعاة لإرادتها. فقد صارت محجبة فى فرنسا، تعيش حياة تقليدية وسط الجالية العربية. ابنها المتمرد يرفض هذا الإزدواج ويعاني صراع الهوية ، يريد حياةً حرةً منطلقة، ويهرب إلى الإدمان. تقرّر أن تعيد النظر فى حياتها كلها فتذهب لمحام لرفع قضية طلاق للتحرر من الزوج تقول عن نفسها : “من أنت يا نادين؟”، سؤال لا يكف عن وخز دماغي. مطربة سيئة الحظ؟ أم طفلة ساعية للاختباء؟. دقة قديمة أنا، سلطانة الطرب الكلاسيكي، لم أجد نفسي في الألحان الشبابية السريعة والأغاني القصيرة، بل ظللت مولعة بالقديم، تعلقت به منذ طفولتي، لكن بيت أبي كان قبلياً، شقة صغيرة خانقة قمعت رغبتي في تحرير حنجرتي بالنغم، فأذعنت” . تمثل نادين أنوذج هكيلي للصراع الفكري والخواء الروحي وأزمة الهوية وفقدان المعنى.
ونسمة ضرغام تمثل نموذج واضح لاضطراب الهوية الجنسية ورفض لصورة الجسد ، فهي فتاة ذكية، تعانى من متلازمة ترنر، وهو مرض جينى يؤخّر نموها، ويجعلها قصيرة القامة، وأبعد ما تكون عن المواصفات الجسدية المغرية، كما أنها مهددة بمتاعب فى القلب. ولكن فرصة النجاة تتحقق بحصولها على منحة من جمعية بريطانية لرعاية البنات المريضات بمتلازمة ترنر. حياتها قبل السفر وبعده مرتبطة بعلاقاتٍ غريبة: طبيب تزوجها باعتبارها حالة نادرة، وعامر ذلك المهاجر الباكستاني الذي ارتبطت به وهو المعاق جرَّاء تعرُّضه لانفجار أثناء الحرب ثم يتركها حين تكتشف أنه متزوج ولديه أولاد، كذب عليها بحجة إنها لم تسأله، ثم ناشط بريطانى ضد العولمة، اكتشفت علاقته المثلية مع زميلٍ له. ستوافق رغم ذلك على الزواج منه صوريًّا ليعيش وصديقه ألبرت معها في شقتها، وضْع شاذ يصيبها بالاغتراب وفقدان المعنى وسط رفض الجيران والأصدقاء العرب واستنكارهم له . ، بينما تخوض أيضًا حربًا أخرى فى مصر لانتزاع ميراثها من شقيقها الذى استولى على حقها الشرعى تقول عن نفسها :”ومن أكون أنا”نسمة ضرغام”؟ سوى امرأة تجاوزت الأربعين وما زالت تعجز عن السيطرة على الطفلة التي بداخلها، ما زالت تهوى الطفولة ونزقها وألعابها، وجدت نفسها هذا المساء في قلب زحام لندن.. حيث تصطحب الأمهات أطفالهن لتريهم ما يغيب عن البيوت، ما يمكن أن يحدث لهم في أيام وليالي الحياة المدهشة. يصعب ألا أشعر بالوحشة، أو أن أتجاهل السؤال الذي لا يكف عن وخز أعماقي.. “لماذا جئت إلى هنا”.
أي إبداع هذا الذي جاءت به الدكتورة عزة رشاد في هذه الرواية “بالحبر الطائر” وأي تنظير فريد لم يأت به إلا ثلة نادرة في تاريخ علم الأمراض النفسية ، إذ ترد كثرة الأعصبة النفسية لسبب نفسي رئيسي هو الخواء الروحي لدى مجموعة من الشخصيات التي تعاني من الاغتراب النفسي وأزمة الهوية سواء داخل مجتمعاتهم الأصلية أو مجتمعات الغربة في بلاد المهجر . لقد عانت شخصيات الرواية الرئيسية والثانوية من عدة اضطرابات نفسية وخلقية مثل الاكتئاب والزهايمر والعلل النفسجسمية وصورة الجسد المشوه والجنسية المثلية والتطرف والارهاب والإدمان واضطرابات الهوية ومخالفة التقاليد الدينية والصراع الأيديولوجي، ولقد لوحظ أن تلك الشخصيات وجد بها أعراض ذلك الخواء الروحي وأزمة الهوية إلى جانب الإضطرابات والأعصبة الأساسية تروي المؤلفة عن أربع سيدات خلال رحلة العمر الممتدة من أيام الدراسة ما قبل الجامعة لما بعد عامهن الأربعين وحياتهن في مصر وبلاد والهجرة وما عانته كل واحدة منهن في هذه الرحلة الحياتية وأشار الراوي في بداية الرواية إلى قيمة كبيرة يمكن من خلالها دعم نعيمة لصديقاتها نادين ونسمة ونجوى من خلال تأسيس صفحة على الفيسبوك اسمها “الفور إن” وهذا العمل من شأنه أن يقدم ما يطلق عليه علم النفس الايجابي المساندة الاجتماعية ولها وعلاقة مؤثرة وداعمة في حياة الانسان وتساعده في التغلب على مشكلاته وتساهم في علاجه النفسي وتطوره الايجابي. وترفع من تقدير الذات لديه وتدعم صلابته النفسية مما يؤدي إلى شعوره بجودة الحياة والسعادة أو الرفاهية النفسية تقول نعيمة ” نحن هنا يا بنات بعد فراق السنوات الطويلة من أجل المحبة الأربعة “أجمل أربعة ، المحبة التي تغربتِ يا نادين من أجلها من أجل الحرية ، الحرية التي سافرت وتغربت يا نوجا أنت ونسمة أكثر من عشرين عاما بحثا عنها ” . وهكذا بدأت الرواية وتعرفنا على الشخصيات التالية ومعاناتها من خلال اكتشاف ابن نعيمة لملفات على حاسوبها الشخصي حول الشخصيات الأربعة وهن : نعيمة ذات القلب الطيب التي تقدم الخير للاخرين وتعيش مطلقة فعليا وليس على الأوراق الرسمية ، ونادين التي ضحت من أجل زوجها وأولادها وأصبح ابنها مدمنا ويعامل الأب بقسوة ورغبتها في تنفيذ الطلاق مؤخرا ، ونوجا التي أصيبت بالزهايمر وتبحث عن ابنتها التي أحبت من خارج دينها الإسلامي، ونسمة التي تبحث عن أدي دور لها بعد فشل زواجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أستاذ علم نفس وناقد مصري
رواية ” بالحبر الطائر صدرت عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع. القاهرة . 2025.





