عبد العزيز دياب
رأيتني كثيرًا في مشاهد رجراجة باهتة والطبلة على بطني، أنا بالطبع لا أنتمي لفريق الطبالين والزمارين، أصحاب الشوارب المفتولة واللاسات المزركشة. الطبلة حمل ثقيل بلا شك، وها أنا أعترف أنني ضبطني أطوف بها الأعراس، الليالي الملاح، حفلات الطهور، حلقاتك. برجالاتك وأشياء كثيرة.
أخبركم أنني بلا فخر حارس سيد قشطة في حديقة الحيوان، أول كائن بالحديقة كانت لي معه صولات، وجولات، وحكايات، وأغاني. يشهد على ذلك الزوار. حاول المدير أن ينقلني لحراسة النسانيس لكنني رفضت رغم إعجابي بحركتهم اللزجة اللحوح. الكائن الذي أحدثكم عنه، (اقصد سيد قشطة) تربطني به صداقة وعِشْرَة تمتد إلى عشر سنوات.
لا أعرف كيف أفكر، هل أنا الطبال الذي يقرع طبلةً ليستكين وحشٌ يعربد بداخلها كل مساء. أظل أقرعها بضربات رتيبة إلى أن تهدهدني أصوات ربما هي لكائنات خفية تهمس في أذني بأن البنت تموء والقطة تغمز بعينها.
معذرة: البنت يتألق وجودها أمامي عندما أكون طبالا في حفلات المساء، في الأعراس. تخربش شيئاً وهمياً وتشاغلني، وعندما تنضبط نقراتي على الطبلة تجهز لي عصير التوت. كم هي لطيفة وحنون، عندما أدخل البيت تدلف ورائي، تقدمه لي طازجاً وتهر، أتحسب دائما للحظة القادمة عندما تفك ضفائرها وتصير قطة.
كنت في حيرة، تَرَكْتُ ظلها على الجدار يموج كسمكة شقية، وجدتني أنقر طبلتي نقرات متتالية منتظمة لترقص. ساحرة هي، يموج جسدها، يتهدل الشعر غاضباً ومنفلتاً. أستجير بسيد قشطة صديقي.
ـ هل عشقت يوما يا سيد؟
قهقهاته تشبه هدير ساقية، أراني أنقر على الطبلة، هي لعبتي، يدي رشيقة وساحرة. ينسجم الإيقاع وتلعلع قطتي برقصة فطرية شاهقة، تلتقط أنفاسها وتهر، أضعها في حجري، أمسح شعرها الناعم، نخرج من حلمٍ إلى حلمٍ.
جارى حقود لا يعرف أن بي الكثير من صفات سيد قشطة، أرقص نفس رقصته، أغني بطريقته الفجة، أغضب غضبته الكاسحة، أواجه الآخرين مثله بنظرات محايدة. لم أكترث بالرجل عندما مر أمام الباب المفتوح خمس أو سبع مرات، تماماً مثل الليالي الفائتة. يا هذا أنا أغنى اليوم للقطة الأغنية التي تحبها، فلماذا تمط عنقك هكذا، تقذف بنظراتك كالرصاص، تبدو مثل حيوان برى يكن العداء لكل الكائنات المسالمة.
لعلى أقسمت له والطبلة على بطني أنها قطة، وأنى أراقصها لا أكثر حتى لا تعضني الوحدة ككلب أجرب ليس له علاقة بأحد في هذه الحياة غير سيد قشطة، وكتاب به رسومات لفيلة، وأرانب، وثعالب، وأسود أظن أنه لتلاميذ الصف السادس الابتدائي.
ناديت عليها والطبلة على بطني، صوتي مخنوق بسبب ثقلها، لا يهم. أطلقت صفيراً، جاءت تهر، تتشقلب وتتمسح بي. كأن الرجل لم يصدقني، ظل على حاله يستطيل عنقه حتى صار رأسه في باحة البيت وجسده في الشارع، حاولت قطتي أن تخربشه. نقراتي الرقيقة على الطبلة جعلتها تتراجع، لمْلَمَتْ أشياءها على عجل، وجدتني وحيداً أتأمل صوري مع صديقي سيد قشطة.
الإيحاءات والمشاهد الباهتة تقول لم يصدقني الرجل، ترك رأسه في الباحة تجول في الأركان والزوايا. لعب به عيال الشارع بعض الوقت، أصابهم الملل سريعاً، قذفوا به إلى الجسد الواقف بالخارج. كان ينبغي أن يتلقف الرأس على كفيه ويزرعه بمكانه، لما سقط على الأرض اندفع عيل وقام بتلك المهمة.
الذي نقر على الطبلة نقراتٌ رشيقةٌ هو أنا حارس سيد قشطة، أو سيد بك قشطة على حد تعبير البعض. تحلق حولي عيال الشارع، نقراتي على الطبلة تشبه التعاويذ، الكلمات التي كانت تخرج منى كالرذاذ أعتقد أنها حكايات عن الوحش الذي يسكن طبلتي، أدق كل ليلة على رأسه ليخشع. هل صدقوني؟
لا أعرف، لكن صدى قهقهات جاري الحقود تؤكد أنه لم يصدق أن التي أراقصها قطة لونها عسلي، طيبة لا تريد منى شيئاً إلا أن أراقصها، وأنا لا أريد منها إلا أن تأتيني بعصير التوت حتى لا تعضني الوحدة.
يبدو أن مشاهد مشوشة تقول إنه عندما تغيب عنى القطة أحلم بها، يتحقق وجودها مع نقرات الطبلة:
نقرة فتكون استدارة الوجه.
نقرتان ترتسم العينان
ثلاث وتنبت نبقة الأنف.
أربع للشفتين.
خمس لرهافة الذقن.
يتحقق وجودها وتخطو بدلال أنثوي تحمل عصير التوت، ولا أعرف هل ستقدمه لقارع الطبلة أم لحارس سيد بك قشطة. يبدو أنني كنت أخَمِّشْ الوحش الساكن في جوف الطبلة بإيقاع جميل، أفرش لقطتي صمت المساء، أضعها في حجري، أمسح على شعرها.
هي تستحق أكثر من ذلك، فكل الكائنات تروح وتجيء: كلاب، حمير، ماعز…، دون أن يهتز أي منها على نقرات طبلتي، إلا هي، كأنها ما جاءت إلى الحياة إلا لترقص، كما أن رسمتي على حائط جارى الحقود كانت لقطة يراقصها طبال: هي القطة. نعم، وأنا الطبال في مساءات الأفراح والليالي الملاح.
المشاهد الباهتة لم تخبرني بأن الرجل ازداد حقداً، أن حارس سيد بك قشطة هو من كان يقهقه ويقول كلاماً كثيراً. فهمت أن الرجل طاف بالشارع عشرة أشواط، استطال عنقه أكثر، قذف برأسه ليفتش عن قطتي في الباحة، في الحجرات، في الأركان والزوايا، فلم تستطع البنت التي تسقيني عصير التوت أن تدخل البيت.
لا أعرف إن كان قارع الطبل أم حارس سيد قشطة هو الذي حكى للعيال عن البنات اللاتي ترتسم ملامحهن مع نقرات طبلتي، عن الوحوش الذين افترسوا الطبالين القدامي، وها أنا أزوج العيال، أزفهم على نقرات طبلتي.
يقسم جاري الحقود بالطلاق أنني مجنون وأبله، لا أستحق شرف حضور أي عرس، لا أستحق الحياة برمتها. هجم على فيما كنت أقرع طبلتي، لا أدرى ما الذي حدث، كل ما أتذكره أن غشاء طبلتي انفجر، بعدها أخبروني أن الوحش الساكن بجوفها انفلت بطريقة همجية على هيئة قطة خرافية تخمش وجه الرجل وتقتلع عينيه، قبل أن تلتصق بي وتسقيني عصير التوت، فيما كان سيد بك قشطة يتكيء على أريكة يشد أنفاس النرجيلة ويقهقه.





