الصورة الروائية.. نموذج من الرواية المصرية المعاصرة “أيام يوسف المنسي” و “غرفة ضيقة بلا جدران”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.عبدالمنعم أبو زيد

مرت الرواية المصرية بمراحل عديدة، حتى اكتملت فنيا، واستوعبت التراث، والتقنيات السردية الحديثة فى توظيف تام للواقع المعاصر. وسوف أقف أمام النص من حيث استقراء تقنياته الفنية، ومدى توظيفها لإنتاج رؤية ودلالات الروائي.

جاء اختيار البحث لعنصر “الصورة” لبيان البناء الفني للرواية، واعتاد النقد دراسة الصورة فى الشعر بينما لم تدرس فى السرد. أما محاور الصورة موضع البحث، فهي: العناصر التي شكلت فضاء الصورة.. اللغة ودورها.. المكون البلاغي.. دورها فى السياق النصي.

وللصورة وظائف هامة هي: تقوم بدور حاسم إذا جاءت فى لحظة تحديد المصير.. قد تحمل شحنات عاطفية أو أحكاما ضمنية.. مجموعة الصور قد تشكل ألأفكار الفلسفية أو تأملات الراوئى.. تشكل جزءا من لوحة لشخصية معينة.

لكن الصورة السردية ملحقة بالنص المحيط (أو مجموعة النصوص المصاحبة للنص الأصلي: العنوان الرئيسي والفرعي، الهوامش، التعليقات، نصوص التصدير، التقديم، الملاحق، التذيل، طريقة إخراج العمل الروائي).

  • صورة العنوان: “أيام يوسف المنسي” لا يكون صورة بلاغية، كما فى الصورة الشعرية.. فيما يشير إلى الداخل فى النص، بشكل مباشر أو غير مباشر.. كما يعنى دلالة مرور الزمن فى علاقة مباشرة.

بينما “غرفة ضيقة بلا جدران” يعد من العناوين التي نستقرأ منها الموقف الفكري والفلسفي للروائي.. وعبر العنوان هنا عن محنة الشخصية ورؤيته وتطلعاته نحو المستقبل.. وأيضا رؤية الروائي ووضعيته النفسية.. كما يعنى دلالة على التشتت وعدم السيطرة على الزمن الحاضر، ومحاولة الانفكاك من سطوة المكان.

  • صورة الإهداء: العملان لا يحملان “إهداء”.

 *صورة الشخصية فى النصين.. بتفكيك مفردات النص الروائي، سوف نقف أمام ما تمتاز به فنيا، ومدى تفعيل دورها فى السياق العام.. من المفردات: الشخصية، المكان. فالشخصية ركن أساسي فى الرواية، تقوم بالفعل وتؤثر فى المكان، وتتأثر به، وتقيم العلاقات التي تكشف عن خصائصها، وهى كائن عضوي له أبعاد اجتماعية ونفسية.

* ففي “أيام يوسف المنسي”.. تظهر بوضوح أهم الملامح الخارجية للشخصيات التي تعكس جزءا من صورتها العامة، يقول السارد:

“انتهز يوسف فرصة حضور المسئول الكبير ذي الوجه الدموي اللامع، فاقتحم محرابه يشكو له هوانه، وقلة حيلته، ابدي المسئول اهتماما زائدا تحت الأضواء الباهرة، سمع منه: “أنا يوسف عبدالواحد المنسي”.. الرجل الذي وضعه تحت إبطه، أرقه فى رائحة عرقه العفنة.. الرجل من ذوى القامة الطويلة، عالي الأنف..”ص11

فى هذا المشهد صورة رجلين يتبادلان الحديث، أحدهما لم يذكر الراوي إلا اسمه فقط، أما بقية ا,صافه الخارجية منثورة فى بقية صفحات الرواية، وذكر الاسم كاملا فى البداية يعنى أن هذه الشخصية مميزة، واضحة المعالم، تؤدى الفعل بمصداقية، وتعرف جوانبه جيدا، وتقيم علاقات مع المكان الذي يحتويه، بل انه أحيانا يفسر وضعها الاجتماعي، ومظهرها الخارجي، حيث نجد –مثلا- أن الشق الثالث من اسمها “المنسي” يصل بالمتلقي إلى أن أصولها متواضعة اجتماعيا، وماديا، وهذا ما صرح به النص فى قوله:

“المنسي” هذا صفة لشخص هو الجد الأكبر لعائلتنا، نحن سلالة لقب لا يشي بحرفة احترفها الأجداد، أو مركز اجتماعي كان لأحدهم.

والرجل الآخر رسم له النص صورة جسمانية خاصة، وتكشف عنه اجتماعيا ونفسيا، فهو ذو الوجه الدموي اللامع، رائحة عرقه عفنه، قامته طويلة، عالي الأنف، وكلها صفات تعكس الملمح الخارجي له، وتدل على أنه أكثر انغماسا فى المادية، وانه ليس على قدر من الوسامة.

كما يقدم السيد نجم صور وصفية لمجموعة من الشخصيات، ذلك فى قوله: ” أبو عواد ذو الصوت الجهوري، الفارع الطول، النحيف، عار الصدر دوما حارا بالوشم الأخضر على صدره “أبوزيد الهلالي” شاهرا سيفه، ممتطيا جواده.. “عبود الخشن” بدين، قصير، محترق البشرة، ملتهب العواطف شوقا لداره هناك بإحدى قرى الصعيد.. “حمودة المشد” الشاحب الوجه، اللدغ، هارب من حكم النفقة الصادر ضده.. ص22،23

فى النص ثلاث صور تبرز الملامح الخارجية لثلاث شخصيات على النحو التالي:

أولا- شخصية “أبو عواد” ووصها الكاتب بمجموعة من الصفات المادية هي “الصوت الجهوري، الطول، النحافة، الصدر المنقوش بالوشم، الجعجاع”.. والناظر للاسم، والصفة يلحظ أن ثمة مفارقة بينهما حيث يوحى الاسم بدلالات التشرد، والضياع واللامبالاة، فالشخصية من مهاجرى السويس، ولم تتمسك بأرضها وتشبه –تماما- ما ذكره القص الشعبي من حكاية عواد الذي باع أرضه وتنازل عنها بسهولة فى سبيل استقرار زائف، وتوحي الصفة بالقوة والشجاعة، والمهابة حيث الصوت القوى، والطول المخيف، والوشم الذي استقرأ دلالات شخصية”أبوزيد الهلالي” بما تحمله من عظمة، وقوة قهر الأعداء، ومن ثم جاءت المفارقة، وحدث التباعد بين الاسم والصفة.

ثانيا: شخصية “عبدون الخشن”، وصفها الكاتب بهذه الصفات التي كونت صورة لشكلها الخارجي (البدانة، القصر، السواد) وكلها توحي بعدم الوسامة، ويبدو ثمة توافقا بين هذه الصفات وبين ما قامت بفعله هذه الشخصية التي هربت من قريتها خوفا من الثأر، وعاشت فى موطنها الجديد يحوطها الجبن، والخوف، ولا شك أنهما صفتان يتوافقان –تماما- مع ما اتسمت به من ملامح خارجية.

ثالثا: شخصية “حمودة المشد” ووصفه الكاتب بأنه (شاحب الوجه- الدغ) وهما صفتان يدلان على الضعف، والانهيار الجسدي، والانطواء على النفس، وقد توافق هذا المدلول مع الموقف الذي أحاط به، إذ تعامل باللامبالاة مع زوجته فى فعل الخيانة الذي قامت به، فجاء رد فعله سلبيا.

وفى الرواية نفسها (أيام يوسف المنسي) يقول الراوي عن واحدة من شخصياتها:

“حيرم العضل الفارع الطول، نحيل الخصر تعلو وجهه ندب جرح دمل منذ زمن، دوما يتمنطق بحزام اسود عريض تملؤه نتؤات حديدية لامعة، يرتدى فانلة ذات رقبة ونصف كم مع البنطلون الضيق طوال العام صيفا كان أم شتاء..” ص35،36

يكون هذا النص صورة وصفية تكشف عن البعاد الخارجية للشخصية وهى تنحصر فى الصفات الآتية (فارع الطول، نحيل الخصر، تعلو وجهه ندب جرح دمل منذ زمن، يتمنطق بحزام أسود، يرتدى فانلة رقبة) وكلها صفات خارجية توحي بقوة الرجل، وحزمه، وسيطرته على المحيطين به، وينطبق هذا الوصف مع ما يقوم به من عمل فى المجزر أو السلخانة. هكذا وظفت ملامحه الخارجية لتسيير دفة حياته إلى الأحسن.

كما نشير إلى أنه جاء وصف الصوت واللسان، ليدلل الراوي على أن الشخصية لا قدرة لها، وليس لها دور ايجابي فى تفعيل ما يحيط بها يقول:

“فهو صاحب الصوت العالي واللسان اللاذع” ص15

أيضا جاء وصف الكفين، والشفتين، والذراع فى الرواية للتدليل على ضخامة الشخصية، وسطوتها الغاشمة، وذلك فى قول الراوي:

“انسحب مع تلك الكف الغليظة الصغيرة التي تدفعه من كتفه.. ما كان أكثر من شفتين غليظتين سوداويتين..” ص14

* أما فى “غرفة ضيقة بلا جدران”.. ثمة صور يبرزها هذا العمل، كثيرة هي، تصور الواقع النفسي للشخصية، تأتى بفعل مثيرات مادية، ومعنوية كالتذكر، والتمني، والحلم، والمرض، والقلق. يقول الراوي:

“تمنى لو يعتنق دربا يجهل الألم, فيه يسمع أصداء صوت خطوات قدميه عاليا, وأنفاسه رتيبة مستقرة مع صوت فكيه, ولسانه يلوك جرعة ماء.. الماء الذي لم يتذوقه منذ بداية الوعكة..” ص2

فى هذا النص تتمنى الشخصية لنفسها صورة مغايرة لما هي عليه فى الواقع الحاضر تتمثل هذه الصورة فى خوض طريق جديد, لا مرض فيه, تعلو فيه أصوات قدميه بقوة, وتستقر أنفاسه, ويلوك فمه الطعام الذي يحب, ويتذوق الماء الذي يريده, وتختلف هذه الصورة-تماما- مع مثيلاتها, وهى فى حالة المرض حيث لا طعام ولا ماء، وإنما مرض كان سببا فى اليأس وإنهاك الجسد.

الشخصية هنا على ثلاث أحوال:

  • فى صورة الماضي.. مرض- هلاك- ضعف.
  • بين الماضي والحاضر.. قلق وترقب للحظة القادمة.
  • صورة الحاضر.. تمنى الضد، وطريق جديد نحو الصحة.

تبدو هذه الصورة امتدادا طبيعيا للحظة التمني التي خلقت منذ البداية، حيث تمنت الشخصية زمنا آخر، يختلف عن الزمن الذي تعيشه، ومكانا مغايرا للمكان الذي يحتويها فى لحظة الحاضر يمنحها الحرية، والانطلاق خارج حدود الغرفة، وهذا ما يوضحه الراوي فى قوه:

“كل صباح جديد، كان يبحث عن يوم آخر، وعن غرفة بلا أبواب.. بلا سقف، يحلم لو يسير فوق طريق أخرى غير التي وجد جسده عليها..”

وتتمنى الشخصية فى موضع آخر من الرواية أن تكون حبه لقاح أينما ترمى بها الرياح تبقى كما هي لا تتأثر بمرض, أو بضعف, وهذا يشير إلى حالة اليأس, والقلق النفسي التي أحاطت بها ودفعتها لان تتطلع اى هذه الأمنية, يقول الراوي موضحا هذا:

“تمنى لو أصبح حبه لقاح، تحمها الرياح إلى حيث تشاء؟.. أينما تسقط تبقى “حبة لقاح” قادرة على الإخصاب..” ص9

تكشف تلك القراءة فى النصين، “أيام يوسف المنسي”، “غرفة ضيقة بلا جدران”، أن النص المحيط صورة فنية دالة وكاشفة للنصين.. كما أن دلالة الصور الجزئية (حيث القراءة فى الشخصية) مرتبطة بالمنطوق الدلالي العام فى النص.. وما سبق بفضي إلى أن الصورة الروائية تقوم بوظيفة هامة وكاشفة فى تحليل النص وتفعيل دور القارئ.. كما أبرزت الصورة الروائية فى النصين تحديدا عن موقف الروائي الايديولوجى ومحنته كما وردت فى الروايات.

…………………………..

*نشرت ضمن كتاب “الصورة الروائية.. نموذج من الرواية المعاصرة، 2006م

 

مقالات من نفس القسم