حاوره: محمد المطارقى
هو أحد المبدعين القلائل الذين يمتلكون القدرة العجيبة على صياغة كتابة موائمة لمفردات العصر.. يؤمن بأن الخيال هو الآلة العجيبة التى يمكنها أن تحمل الطفل إلى أقصى مدى، فالطفولة فى كتابات الأديب المبدع “أحمد عبد الرحيم” بما تحمله من طزاجة وبكارة، فى مقابل عالم شديد القسوة، أفسده الكبار بأطماعهم، وغبائهم.. خلق “عبد الرحيم” عالمًا آخر مواز لهذا الواقع الذى نعيشه.. بيد أنه عالم طفولى يحمل شخصيات طيبة وأخرى شريرة.. وصراعات بين الخير والشر.. والجمال والقبح.. عالم صنعه كاتبنا المبدع أحمد عبد الرحيم بحرفية وذكاء.. جمع فيه بين الأصالة والمعاصرة، فهى كتابة تتماس مع واقع العصر بمستجداته وآلياته، وأدواته الحديثة.. بلغة تمتاز بالطفولية والبساطة مع الحرص على القيم النبيلة، والانحياز الى تراثنا المجيد، ومواجهة أشكال مقيتة من الغزو الفكرى والبطولات البلاستيكية المزيفة. ان كاتبنا يؤمن بأن الطفل يجب أن يتعرّف على الواقع بكل ما يحمله من خير وشر، فلا ينبغى أن نكشف له الجوانب المضيئة ونخفى عنه جوانب الشر حتى اذا ما اشتد عوده، وتوجب عليه أن ينزل الى واقع الحياة لم يصطدم بالجوانب الخفية، وانما هو مؤهل للمواجهة، والتحدى، والاصرار على النجاح بما يحمله من رصيد قديم ساعد على توعيته وبناءه بالقدر الذى يحتاج اليه. “أحمد عبد الرحيم” هو أحد المبدعين القلائل الذين أجد فيهم عبقرية الكتابة بروح طفل.. كم أنه شخصية دمثة الأخلاق، يتمتع بالخصال النبيلة، والتواضع الجم، وهذه من سمات المبدع الحقيقى.. وهاكم الحوار:
* حدثني عن ذلك الطفل الذى كنته.. والطفل المخبوء داخلك.. والطفل الذى تبحث عنه؟
هذا سؤال طريف ومثير جدًّا، ويجعلنى أفكر فى قصة عن الطفل الذى كنته، وكيف لا يطيق الطفل المخبوء داخلى، ورغم ما بينهما من خلافات، ينطلقان خارجى فى رحلة لإيجاد الطفل الذى أبحث عنه، وكيف أنى سأكون مركز الحكمة الفاشل وسطهما، الذى يحاول إرشادهما على نحو يوقعهما فى المشاكل دائمًا!
الحق أن الطفل الذى كنته هو نفسه الطفل المخبوء داخلى، وهو مستشارى الأمين الذى ألجأ إليه فى كل عمل جديد، وإن كنت أحيانًا لا أكتفى بوجهة نظره، وأعرض الأمر على طفل حقيقى كى أهتدى برأيه. أما الطفل الذى أبحث عنه فهو الطفل الذى أريد أن أنقل له مبكرًا كل الدروس التى تعلّمتها فى حياتى، لعلى أكون خطوة طيبة فى مشوار نضجه، تلخِّص له دروسًا قد يستغرق سنوات وسنوات كى يحصِّلها.
* لك تجارب عديدة فى مجالات الفنون المختلفة، منها الفن التشكيلى.. والنقد السينمائى.. وكتابة الرواية بجانب القصص والسيناريوهات للأطفال.. أيها أقرب الى نفسك؟
الكتابة للطفل بالطبع؛ سواء سيناريوهات القصص المصوَّرة، أو القصص السردية المصحوبة ببعض الرسوم. أى نشاط آخر يجىء بعد ذلك. فالكتابة الأدبية للكبار، والنقد السينمائى، والفن التشكيلى هى هوايات أمارسها بجدية إن وجدت لها وقتًا. وكما قال الكاتب الكبير الراحل “محمود السعدنى”: “سأُبعث يوم القيامة فى كشف نقابة الصحفيين”، فأتمنى أن أُبعث أنا فى كشف مؤلفى الأطفال.
* هل الكتابة للطفل ـ بالفعل ـ صعبة؟.. وما هى الطريقة المُثْلَى لتحقيق كتابة جيدة تليق بطفل ذكى تتجاذبه وسائل أخرى أكثر ساحرية وإمتاعًا؟
أظن أن أى كتابة أدبية صعبة على مبدعها إن أراد لها التميز. ولا أظن أن هناك “طريقة” بعينها لتحقيق كتابة جيدة. أستاذى العزيز فى المعهد العالى السينما، السيناريست د. أشرف محمد، لقّننا قواعد الكتابة، ثم أخبرنا فى النهاية أن أهم قاعدة هى أنه لا توجد قواعد؛ لأن الفن متغيِّر، ويستوعب الجديد والمختلف طوال الوقت. الفكرة – فى وجهة نظرى – هى أن نكون هذا الجديد والمختلف والمفيد فى الوقت ذاته. فنبحث عن المتفرد، والمتمرد، جاذبين الطفل، ومثيرين خياله. ونسعى إلى إمتاعه، محاولين فى الطريق إضافة شىء إلى عقله، وقلبه. ونستوعب تراثه القديم، مواكبين الحديث من حوله، لنقدم أدبًا يصلح لكل العصور. طبعًا تحقيق كل هذا صعب، لكنه ليس مستحيلًا. لهذا، مع الاعتراف بأن السينما مبهرة، والتلفزيون مسيطر، والإنترنت صياد محترف، فإن الكتابة الأدبية قادرة أن تكون على قدم المساواة مع كل هذه الوسائل، وتنافسها، مُكتسبة المتلقى الصغير منها؛ فقط إن أرادت.
* لمن تكتب.. بمعنى.. أى طفل هذا الذى تضعه أمام مخيلتك لحظة التجلى الإبداعى.. وما هى المرحلة العمرية التى تجتذبك أكثر للكتابة عنها؟
والله يا أستاذ محمد أنا أجد نفسى فى الكتابة للطفل بين سن 8 إلى سن 12. السن التى تسبق ذلك هى امتحان شديد الصعوبة. وحينما أقرأ قصة مكتوبة لطفل أقل من 8 سنوات؛ فأنا أقدِّر مجهود صاحبها أكثر من غيره، وأغبط اختياراته الدقيقة للأفكار والكلمات.
* هل للإعلام دور فى تحقيق الغاية الإبداعية وتسويق المنتج، وتلميع الكاتب، واجتذاب القارئ.. وما الطرق التى ينبغى اتخاذها فى هذا الشأن؟
إعلامنا حاليًّا يعيش أسوأ عصوره على مستويات كثيرة، ومهمته فى نشر الوعى، والارتقاء بالثقافة، شبه ذهبت مع الريح. دور الإعلام يجب ألا يكون تسويق منتج، أو تلميع كاتب، أو اجتذاب قارئ. دور الإعلام يجب أن يكون تسويق قيم، وتلميع مُثُل، وصناعة قارئ، ومبدع، وإنسان سوى من قبلهما. أنا لا أجد فى 500 قناة مصرية وعربية مسلسلات أطفال إلا على نحو محدود جدًّا. وإن وجدت، تكون – فى الأغلب – أعمالًا مدبلجة للعربية، وليست إنتاجًا عربيًّا. إنتاج مسلسلات الأطفال عندنا انخفض وانخفض حتى يكاد يندثر! أنا زهقت من جمل مثل: “يمكن صوتنا يوصل للمسئولين”، و”أتمنى إن الحال يتغير”، و”أين الاهتمام بالطفل؟”، يبدو أن العمر سينقضى ونحن نردد هذه الكلمات بلا جدوى. أليس للمسئولين أنفسهم أطفال يريدون لهم المتعة والتربية؟! ألا يوجد رجال أعمال يريدون أن يتركوا لهذا العالم ذكرى غير برامج الطبخ، والمسابقات الغنائية، والمواد الهزلية؟! ألم تكتفِ القنوات، وتبلغ حد الثمالة والتقيؤ، من الـ”Talk Shows” أو البرامج الحوارية، وحكاوى الفنانين، ومسلسلات المقاولات، وطوفان الجهل والانحطاط والتفاهة الذى يتزايد يوميًّا؟! الإلحاح الآن فى الإعلام صار لكل ما يجذب “الإعلان”، والإعلان لا عقل له؛ إنه كائن شهوانى مسعور يريد المال، والمال فقط، لهذا لن يفكر الإعلام فى مسلسل أطفال، أو برنامج أطفال، أو أغنية أطفال إلا مع كل احتراق عنقاء! باختصار يا أستاذ محمد، دور الإعلام ليس فى التسلية فحسب، وإنما فى التوعية أيضًا. لو قام على العنصر الأول فحسب، فقل على الدنيا السلام. لكن إذا ما توافرت قيمة الوعى، فسنحظى بطفل يدرك أهمية المعرفة، وقادر على تمييز السمين من الغث، وساعتها سيبحث عن الكتاب من تلقاء نفسه، ويميِّز ما إذا كان كاتبه يستحق الاهتمام أم لا.
* ما أهم المعوقات التى تحول بين كاتب أدب الطفل، وبين وصول منتجه الابداعى إلى القارئ المستهدف؟
فى السنوات الأخيرة، تراجع نشاط دور النشر، وقلّت كثافة المطبوع، لأسباب متنوعة؛ قد تكون أزمات اقتصادية، وازدياد لأسعار الورق، أو رغبة فى تحقيق ربح من أعمال أكثر تجارية كأدب الرعب، أو الأدب الساخر مثلًا، وصولًا إلى ظن البعض أن بناء الطفل غير مطلوب حاليًّا! وهو ما أدى – إجمالًا – إلى هبوط أعداد الكتب الموجهة للطفل، وارتفاع أثمان الموجود أيضًا. الحمد لله أن حضرتك لم تضمن سؤالك طلبًا بطرح حل، لأنى بالفعل لا أعرف الحل! لكنى أحلم. أحلم بأن الدولة، التى تدعم أدب الطفل إلى حد كبير، تزيد من إصداراتها سنويًّا، وأحلم بمليونير طيّب يسعى إلى نشر القيم الأدبية والأخلاقية من خلال أعمال موجهة للطفل، لا يبغى من ورائها الربح السريع والضخم الذى قد توفره مشاريع أخرى. وعلى أى حال، مهما كانت المعوقات أمام الكاتب، فعليه أن يجابهها، ويسعى إلى تجاوزها، لهذا أنا لا أعتبر الإصرار حائط صد، أو صديقًا مؤازرًا، الحق أنه فى ظل ظروفنا الحالية، يجب أن نكون والإصرار شخصًا واحدًا.
* باعتبارك أحد الكتّاب المهمين فى حقل الطفولة؛ ما هى أهم القضايا التى تشغلك دوما، وتحاول تضمينها أعمالك الإبداعية؟
أشكر حضرتك على كلمة “أحد الكتاب المهمين”؛ فهذا تكريم كبير أتمنى من الله أن أستحقه. وفيما يخص القضايا التى تشغلنى، فأنا مهتم بتحريض الطفل على الخيال، والترفيه عنه، فضلًا عن بث القيم إليه فى عصر عزّت فيه تلك المهمة من جانب المدرسة، والبيت، والشارع، والإعلام، والفنون. أنا أشعر أن مؤلف أدب الطفل فى زمننا صار مثل رجل وحيد فى صحراء يحاول كل يوم سقاية نبتة تغيب عنها الشمس طويلًا، لكنه مُصمِّم على مهمته رغم كل شىء، لأنه مؤمن بها، ولأن النبتة لم يعد لديها غيره. أعلم أن الصورة تبدو مفرطة البؤس، لكن هذا هو الواقع الذى نعيشه. وأنا متفائل، وموقن أن النبتة ستتحول إلى شجرة، بل أشجار، وستخضر هذه الصحراء فى المستقبل.
* هل توجد خطوط حمراء (محاذير) عند الكتابة للطفل؟
بالنسبة لخطوطى الحمراء، ومحاذيرى، فإنها ببساطة الكتابة المملة، أو المتعالية على الطفل، ليس إلا. أما المحاذير الرقابية العامة فأقابلها طبعًا، وقد لا تعجبنى. فهناك محاذير تقول بأن ثمة قضايا “للكبار” لا يصح تناولها فى قصة للطفل، أو لا توجد فى عالم الطفل أصلًا، وهذا غير صحيح؛ فقضايا مثل الفاشية، والإدمان، والعنصرية موجودة فى عالم الطفل، المهم أن تراها بأعينهم، وتتناولها من خلال مفردات حياتهم. وهناك محاذير تضحكنى أحيانًا؛ مثل أن تطلب جهة نشر ما “تقليل الخيال” فى العمل! وهناك محاذير تثير عجبى، كأن يُرفض عمل بحجة أن شخصية أساسية فيه تموت؛ هذا بالذات يغرقنى فى بحر استغراب لا قرار له، فالموت حقيقة بديهية، وكثيرون حول الأطفال يموتون يوميًّا (أحد الأقارب، الجيران، الأصدقاء.. إلخ)، فلماذا يتجاهلون هذا المعنى، لاسيما إن كُتِب على نحو بعيد عن التنفير والقتامة؟! هذه من نوعية المحاذير التى أرى كسرها اختيارًا متعقلًا، بل مفيدًا للغاية.
* بمَ تنصح الكتّاب الجدد الذين يخطون خطواتهم الأولى نحو عالم الكتابة للأطفال؟
أنا لا أرى فى نفسى ناصحًا على الإطلاق، بصراحة أنا المحتاج للنصيحة، لكن لو كان لدى كلمة أقولها للجميع؛ المؤلفين، وغير المؤلفين، ولى أنا شخصيًّا، ستكون: حافظ على الطفل الموجود داخلك، احذر أن تنساه، أو تعبث ببراءته، أو تتجاهل جنونه، أو تستخف بنظرته العجيبة لجميع الأمور. تلك الفطرة نقية، وشقية، تريد اللعب، والطيران، وامتلاك العالم كى تلعب وتطير براحتها، ثم الاستغناء عن هذا العالم للإنشغال بلعب وطيران جديدين فى عوالم أخرى مختلفة. لا تتخلّى عن هذه الروح العذبة، المرحة، الطموح، ولا تتعامى عن كنوزها التى تتجدَّد كل يوم.
* وأخيرا رسالة تود تقديمها فى نهاية هذا الحوار؟
هى رسالة شكر لك يا أستاذ محمد على هذا الحوار؛ فهو جائزة سعدت بالفوز بها.
………………..
*نُشر فى موقع (المجلة الثقافية الجزائرية) / 29 ديسمبر 2018، وفى كتاب (قضايا أدب الأطفال فى العالم العربى “محاورات ومناقشات”): محمد عبد الظاهر المطارقي / دار النابغة / الطبعة الأولى / 2020.





