ملكوت الله مصر

موقع الكتابة الثقافي art 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

كُنّا في آخرِ رحلةٍ إلى مقامِ سيدي أبي الحسن الشاذلي في حميثرا، نمضي عبرَ شِعابِ جبال البحر الأحمر التي تمتدُّ كقلاعٍ صخرية تحرسُ الطريق بين الأرضِ والسماء. خرجنا من الزعفرانة، والطريقُ يلتفُّ بين الوديان والمدقات الجبلية التي لا يقطعها سوى صمتٍ عميقٍ كأنَّه صلاةٌ قديمة.

قطعنا شوطًا طويلًا حتى بدأ الأتوبيس يئنُّ كجملٍ عطِش، ثم توقّف في بطن الصحراء، بعد أن أصابه عُطل في وش السلندر. الليل كان يهبط ببطءٍ، وريحُ الجبال تحمل بردًا ووحشةً تُذكِّر بالخلاء الأول، وكان المبيت في تلك الصحراء الوعرة مغامرةً لا تُحمد عُقباها.

قال السائق بصوتٍ خافتٍ وكأنه يُبشّرنا بالنجاة:

 “على بُعد أربعة كيلومترات في اتجاه الجنوب الشرقي… فيه دير الأنبا أنطونيوس، نقدر نبيت هناك لحد ما الشركة تبعت ميكانيكية.”

ما كذبناش خبر. شدَّ السائق على أنفاس الأتوبيس وبدأ يضغط على دواسة البنزين في رحلةٍ قصيرةٍ لكنها بدت كعبورٍ بين عالمين. وعلى الرغم من العطب، تحمّل المحرّك حتى وصلنا إلى بوابةٍ من الحجر يعلوها صليبٌ يلوّح في ظلمة الجبل. كان ذلك دير الأنبا أنطونيوس، أقدم أديرة العالم، قائمًا في قلب الصحراء الشرقية، داخل جبال الجلالة القِبلية، في مكانٍ يُشبه الصمت الأبدي.

استقبلنا الرهبان الأجلاء بملابسهم السوداء ووجوههم المضيئة بطمأنينةٍ تشبه النور الهادئ المنبعث من الأيقونات. رحّبوا بنا بحفاوةٍ صادقةٍ، وقدّموا لنا عشاءً بسيطًا لكن فيه بركة الغِذاء السماوي. بعد أن نام الزملاء في حجرات الضيوف، شعرتُ بنداءٍ غامضٍ يناديني نحو الكنيسة.

دخلتُ القاعة الصغيرة، حيثُ المذبح تتدلّى فوقه المصابيح الزيتية، وتحيط به أيقونات القديسين التي تعود إلى قرونٍ بعيدة. جلستُ طويلًا أتأمل الوجوه المرسومة على الجدران، وجدتُ فيها دفئًا لم أعرفه منذ زمن، وابتسامة خفية تمتدّ من وجه سيدنا المسيح نحو قلبي.

كنتُ في تلك الأيامِ غارقًا في اكتئابٍ موسميٍّ ثقيل، كأنّ روحي غابت عنّي. لكن هناك، وسط سكون الدير، شعرتُ أنّ أحدهم يربّت على كتفي، وأنّ الحزن يغتسل من داخلي ببطءٍ، كما يغسل النورُ حجارة الجبل بعد المطر.

خرجتُ من الكنيسة في الفجر، والسماء تُورِق بلونٍ رماديٍّ رقيق. شعرتُ أنّني خرجتُ من قبر صغير إلى حياةٍ جديدة.

وكأنّ سيدنا يسوع همس في أذني:

“هو إيه في الدنيا يستاهل… طالما حضرتَ معي في الملكوت؟” لتكتمل كحكاية طريق روحي بين الشاذلي والأنبا أنطونيوس؟

مع أول خيوط الصباح، كانت أشعة الشمس تتسلّل من بين

 شقوق جبال الجلالة، تُضفي على الدير لونًا ذهبيًّا يلمع فوق الحجارة القديمة كأنه وعدٌ بالبعث.

خرجتُ إلى ساحة الدير، ورأيتُ الرهبان في صلواتهم الصباحية، تتردّد أصواتهم بين الجبال كترتيلةٍ تردّدها الصحراء من ألف عام. في تلك اللحظة، أدركتُ أن هذا المكان ليس مجرّد أثرٍ حجري، بل نبض حيّ من روح مصر الأولى، حيث تلتقي العزلة بالصفاء، ويتقاطع درب المتصوفة مع درب الرهبان.

وصل الميكانيكية أخيرًا، أصلحوا العطل، وعاد صوت المحرّك يهمس بالحياة. لكنني، وأنا أستعدّ للرحيل، التفتُّ نحو الكنيسة الصغيرة، وقلتُ في سري:

“سلامٌ عليك يا أنبا أنطونيوس، يا من جعلتَ من الصمت صلاةً ومن الوحدة وِصالاً.”

تحرّك الأتوبيس من جديد، يشقّ طريقه بين الجبال. كلما ابتعدنا عن الدير، كانت الصحراء تزداد شفافيةً، كأنّها تُمهّد لعتبةٍ جديدة من النور. ومع كل منعطفٍ، كانت تعود إلى ذهني تلك الهمسة التي سمعتها في الليل:

“هو إيه في الدنيا يستاهل طالما حضرتَ معي في الملكوت؟”

عبرنا الوديان الممتدة حتى بدأت ملامح حِميثرا تظهر في الأفق: وادٍ منفتح على البحر، وفي قلبه ضريح سيدي أبي الحسن الشاذلي،

نزلنا جميعًا هناك، وأحسستُ أنني أعود إلى الموعد الذي كُتب لي منذ الأزل.

عند باب المقام، امتزجت في داخلي أنفاس الرهبان بالأمس، وأوراد الصوفية اليوم، وشعرتُ أنني أقف على أرضٍ واحدةٍ تجمع بين النورَين: نور الصليب ونور المسبحة، نور من عرف الله بالحبّ، لا بالخصام.

رفعتُ بصري نحو الجبل، وهمستُ:

“يا شاذلي، يا أنطونيوس، يا من اتخذتما من الصحراء معبدًا ومن الوحدة وطنًا، علّمتُما الروح أن الله لا يُرى بالعقل، بل بالسكينة.”

ثم مضيتُ مع القافلة نحو البحر، والموج يلمعُ أمامي كمرآةٍ تُعيدني إلى نفسي، وقد غسلتني الرحلة من همومي، وتركت في قلبي يقينًا هادئًا:

مقالات من نفس القسم

mohammed Al fakharany
تراب الحكايات
محمد الفخراني

السَّهَر

حسين جداونه
تراب الحكايات
موقع الكتابة

هواجس

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

سكيكي

تراب الحكايات
بولص آدم

ظل الأم