حسن غريب أحمد
ليس تجنّب صوت فيروز هروبًا من الغناء، ولا خوفًا من موسيقى تتهادى على وترٍ رحيم؛ بل لأنّ صوتها يحمل قدرةً خفية على فتح الأبواب التي أغلقناها بإحكام، ويوقظ الصفحات التي تركناها تذبل في أطراف الذاكرة.
إنّه صوتٌ يعرف الطريق إلى المناطق التي نتجنّب النزول فيها، كأن بينه وبين القلب عهدًا قديمًا لا يسقط بالتقادم.
فيروز، في حقيقتها، ليست صوتًا يُسمَع؛ بل طقسٌ يُعاش. لحظةٌ يختلط فيها الحنين بالوجع، والوضوح بالغموض، والطفولة بالكهولة.
وحين يتردّد صوتها، تبدأ المدن التي غادرناها تعود إلينا في هيئة ضوءٍ باهت، وتنهض الأمكنة كمن استيقظ من سباتٍ طويل، وتتحرّك التفاصيل التي دفناها في الرمال وهي تعود إلى الحياة على مهل.
إنّها — دون مبالغة — الصوت الذي يعيد صياغة الذاكرة كما تشاء، لا كما نشاء نحن.
فإذا غنّت، جَرَّت الروح من أطرافها،
وأعادت القلب إلى سطره الأول،
وأقفلت أمامك كل طرق الهروب التي صنعتها كي تنجو من ذكراك.
ولصوتها قسوةٌ حنونة تشبه يد أمٍّ غاضبة توقظ أبناءها فجراً للمدرسة؛ فتحمل إليهم الضوء، وتجرّد النوم من مبرّر بقائه.
كذلك تفعل فيروز: تفتح نوافذ القلب دفعةً واحدة، وتدع الضوء يتسرّب إلى الداخل، حتى لو كان القادم الذي يوقظه النور موجعًا أو غير مرغوب.
ومع ذلك، فإنّ في صوتها تلك اللمعة التي لا تشبه أيّ نور،
وبهاءً يُشعر السامع أنّ الصوت ليس صادرًا عن حنجرة،
بل عن نافذةٍ تُطلّ على شيء أعلى من الواقع،
أصفى، وأصدق، وأكثر قابليةً للدهشة.
فيروز ليست مجرّد مطربة؛
إنها ظاهرة وجدانية متفرّدة،
ومعلمٌ روحي لصوتٍ صافٍ
حمل بيروت على كتفيه
وجعل الشرق أكثر نعومةً في لحظاته القاسية.
ولهذا، حين يجيء ميلادها، لا يكون احتفالًا بامرأةٍ عادية،
بل احتفاءً بصوتٍ رافق أجيالًا بكاملها،
وترك في كل بيتٍ نافذةً تطلّ على الحنين،
وفي كل قلبٍ مساحةً للضوء.
عيد ميلادٍ مجيد لسيدة البهاء، وجارة القمر، وصاحبة الصوت الذي لم يفقد ألقه،
بل ظلَّ — رغم مرور الزمن — قادرًا على أن يجعلنا نتمايل بين النور والظلال
كلّما حاولنا أن نتجنّبه… ولم نستطع.




