محمود عماد
لم يمر يوم ميلاد جارة القمر فيروز عليّ مرور الكرام، بل أحسست أنه يوم ميلاد عزيز يخصني، أعرفه بكل يقين، دب في الشعور بأنني أريد الاحتفال، أريد التعبير عن حبي لتلك السيدة.
لم أجد أفضل من الكتابة لأعبر عن افتتاني، وقررت أن تكون كتابتي عن رحلتي من مستمع عابر إلى عاشق كبير، لما تمثله فيروز في وجداني ووجدان الكثيرين.
عندما أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها صوت فيروز، يصيب جسدي قشعريرة غريبة، ربما كنوع من التعويض، لأنني في حقيقة الأمر لم أشعر بذلك الشعور عندما ناداني صوت سفيرة النجوم للمرة الأولى.
لم أسمع فيروز أول مرة، بل هي من جاءت إلي، عبر شخص مجهول كان يستمع لإحدى أغانيها، ربما كانت “سهر الليالي”، لا أتذكر تحديدًا، لأنني في تلك الفترة سمعت صوت فيروز عبر أشخاص مجهولين، لن أقابلهم أبدا، لهذا تبقى الأغنية الأولى التي سمعت بها صوت فيروز محل شك بالنسبة لي.
لم أحب فيروز في بادئ الأمر، لم أر صوتها سيئًا بالتأكيد، ولكنني لم أتيم بها، ولم أبحث عن أغانيها، كأنه نوع من التقصد، لكي لا أكون مثل معظم الناس الذين يستمعون لفيروز في الصباحات الشتوية، ويربطون بينها وبين الفصول والقهوة.
قد أكون خفت من الأكلاشيه، أردت أن أكون متمردًا على صوت يعد قديمًا، وهو شكل من أشكال تمرد الأبناء على أمهاتهم في بداية مراهقتهم.
وحتى عندما بدأت أسمع أصواتًا تعد قديمة، وهو وصف أكلاشيهي صنعته بنفسي، وبدأت سماع فيروز، لم أتيم بها، واستمتعت فقط لبعض الأغاني، متحججًا أنني لا أفهم اللهجة اللبنانية أو المحكية اللبنانية.
ثم جاءت لحظتي الفارقة مع فيروز، وهي الاستماع لأغنية “كيفك إنت؟” هنا أسرتني فيروز، حبسني صوتها الملائكي في قفص لؤلؤي، سجناً يتوق له المرء. من كلمات وألحان زياد الرحباني، تبدأ الرحلة الحقيقية لشاب عشريني أصابه الوله بجارة القمر.
مع الوقت صارت فيروز عادة لا يستقيم يومي بدونها. في الصباح أستيقظ، وأبدأ بعد ذلك في سماع أغاني فيروز، وأنا أستعد لتكبد عناء اليوم، كأن صوتها تعزية لقلبي المثقل بالأحزان، تأتي لتربت على روحي المرهقة.
التجلي الأعظم في علاقتي بفيروز هو الرحيل المفاجئ لزياد الرحباني. لم أعرف زياد قبل رحيله حق المعرفة، ولكنني عرفت بشكل أوسع بعد موته أن الأغاني الأقرب لقلبي لفيروز هي من تلحينه وكلماته.
عرفت ذلك قبل الرحيل بقليل وأحببت زياد، وتزودت به بعد رحيله، فعشقته، وهنا تماهيت مع أغاني فيروز الخاصة بزياد، وأصبحت جارة القمر من مفضلين مفضليني في الطرب والموسيقى.
توحدت أكثر مع صوت فيروز، ومع أغاني زياد، وكأن موته فتح الباب لي لأحب صوت أمه، لأناجيها كل ليلة طالبًا إجابة عن أسئلة يومي الطويل الذي يبدأ معها وينتهي معها.
أحب عددًا كبيرًا من المطربين القدامى، وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم، التي أعشق صوتها، وأتسلطن من أدائها، وأعتبرها بشكل ما مطربتي المفضلة، لكن رغم ذلك تحتل فيروز جزءًا من روحي لا يستطيع غيرها امتلاكه.
الست ثومة يطغى على أغانيها الطابع الرومانسي الصرف، حتى الفقد لديها رومانسي يتعلق بهجر الحبيب، لكن الست فيروز تختلف عن ذلك، يمكن لأي أحد أن يستمع لها مهما كانت حالته.
تغني فيروز عن أشياء كثيرة بجانب الحب أو الرومانسية الصرفة، تتغنى بالبلد والوطن، صحيح أنها تقصد لبنان، لكنه بشكل ما يمكننا إسقاطه على أي وطن ننتمي له.
نلمس أيضًا الغربة، والوحدة، والحزن الوجودي في كلمات فيروز، تصبح ضيعتها التي أسس لها الأخوان رحباني مركزًا لكل الذكريات، ورغم أن مفهوم الضيعة لا يوجد في مصر على سبيل المثال، لكنني دائمًا ما شعرت أن ضيعة الرحابنة المثالية هي ضيعتي.
كما برع الرحابنة في توظيف الطقس والفصول، الشتاء والصيف، لتعبير عن المشاعر، وخلق حالة شعورية تنبع من حر الصيف ومطر الشتاء، حالة وجدانية لم يبرع فيها مثلهم، وأعطاهم صوت فيروز وخامتها المميزة قماشا فضفاضًا ليفعلوا ما يريدون.
ساعدت شخصية فيروز، والتزام الأخوين رحباني ونظامهم الصارم، بل يمكننا وصفه بتسلط الزوج عاصي الرحباني، إلى صناعة أسطورة فيروز، الملاك الذي يهبط من السماء إلى أرضنا يطربنا، ثم يعود إلى سمائه.
ربما أحب تلك الفيروز الهابطة من سمائها لأرضنا المثقلة بالخطايا لتطهرها، ولكنني أحب فيروز التي صنعها زياد الرحباني المتمرد، ربما لأنني أرى فيه شيئًا مني.
أعاد زياد فيروز من السماء لتسكن الأرض، نزع عنها صفة الملائكية، وأرجعها تلك المرأة العادية، وجعلها تهجر الضيعة إلى المدينة.
أحب فيروز زياد الرحباني أكثر من الأخوين رحباني، أو أفضلها بشكل أكبر، لأن الرحابنة أضفوا على فيروز ومنجزها الغنائي صفة القداسة، ومنحوا كل كلماتها وألحانها تراجيديا تليق بأسطورة.
ما فعله زياد كان مغايرًا، لقد تحول منجز فيروز معه إلى شيء عادي، كلمات بسيطة، حب متماهٍ، وحزن عادي، فقد متسامح، جعل زياد فيروز تمشي بين الناس، لذلك يظل تعاونهما فريدًا.
أعتقد أن زياد الرحباني من أهم أسباب حب الأجيال الجديدة لجارة القمر، كونه المجدد في الموسيقى اللبنانية والعربية، والشاعر العادي المغلف بالعظمة، وكاسر الأسطورة الفيروزية، ولعل ذلك ما بعث روح فيروز، وجعلها متجددة دائمًا.
أغنية “كيفك إنت؟” على سبيل المثال، التي جعلتني أعشق فيروز، أغنية بسيطة عن المرأة التي ذهب حبها، وعندما يعود تستقبله، وتسأله فقط عن حاله بكل حب وتصالح، بلحن هادئ يظهر التون الملائكي لصوت فيروز.
ورث زياد فكرة استخدام الطقس والفصول في الأغاني، ووظفه في أغنية “بتذكرك بالخريف”، لكن استخدامه كان أكثر هدوءًا من أبيه وعمه، يعبر عن الذكرى بعد الفقد، الذي ربطه بالخريف فصل تساقط الأوراق، بموسيقى أجنبية أعاد توزيعها بطريقته الهادئة البسيطة في ظاهرها، والعظيمة في جوهرها.
المفارقة أن زياد الرحباني كسر الأسطورة الفيروزية الخاصة بالأخوين رحباني، وصنع ببساطته وتمرده أسطورة فيروزية مغايرة، أظهر جانبا ملائكيا جديدا في صوت فيروز، ليس قادما من السماء، ولكنه مستمد من ملائكية امرأة أربعينية بسيطة.
عندما أسأل نفسي لماذا أصبح هذا العشق لفيروز يشعل قلبي، أجد الإجابة في طريقة استماعي، وفي مشاعري تجاه هذا الصوت الملائكي، أتذكر خفقان قلبي لصوتها، رقصي على أغنية “سهر الليالي”، دمعتي عند سماع “ع هدير البوسطة”، أغنية زياد الرحباني الأصدق، وأتذكر دائمًا عيون فتاة ما ربما أحببتها في زمان آخر، خاصة وأنا أسمع مقطع “موعود بعيونك أنا”.
أتذكر سماعي لأغنية “سألوني الناس”، تعاون زياد الأول مع أمه، على البحر، والأمواج تصدمني، وكيف بدأت تحليلها، وفهم المحكية اللبنانية، وكيف تحولت لمحب لتلك اللهجة، أعرف كيف يمر بي الصباح والمساء، بكل أساهما في “صباح ومسا”.
أشعر بملمس هواء الإسكندرية وأنا أستمع لأغنية “شط إسكندرية”، وأعرف أن الشتوية رجعت أخيرًا عبر “رجعت الشتوية”، وأن الصيف انتهى في “أخر أيام الصيفية”.
أتيقن من غربتي ووحدتي عندما أستمع “لقهوة ع المفرق”، وأعرف سبب جفاء النوم لي عندما تخترق كلمات أغنية “حبيتك تنسيت النوم” قلبي، التي قال عنها زياد إنها أنجح أغانيه مع فيروز، وأتأكد مرة جديدة من وحدتي مع أغنية “قديش كان في ناس”.
ربما يكون السبب الأكبر لعشقي لفيروز، هو الليل الذي أصبح مرتبطًا بها، حيث سماعها أثناء انهيارات الظلام. لا أعرف البكاء مهما تملك الحزن قلبي، لكن صوت فيروز هو الوحيد القادر على انتزاع بضع قطرات من دمع عيني، يتساقط دون إرادة وانتباه على خدي أثناء الاستماع.
فيروز هي الوحيدة التي رأت دموعي، حتى لو لم تكن في شكل بكاء معتاد، لكنني تعريت أمامها وأظهرت ضعفي، لهذا هي قريبة من قلبي.
هي المرأة التي أقضي ليالٍ في مناجاتها، وفي تمني قربها، هي التي تشعرني بكل المشاعر والأحاسيس، وهي التي تبهجني، وتحزنني، تصعد بي للسموات السبع، وتهبط بي إلى أعماق الأرض.
لم أحضر حفلة واحدة لجارة القمر، ولست حتى من جيل قريب منها أو من سطوع نجمها، لكن فيروز بالنسبة لي، ولمحبيها الشباب، هي كنز، أثر غالٍ، يذكرهم بجيل ذهبي في الطرب والموسيقى العربية، لم نحضرهم أو نلمسهم.
لم يتبق لنا إلا الست فيروز، حتى لو كانت تقبع خلف أسوار عالية لا تمكننا من رؤية الأثر على الحقيقة، لكننا نحب أن تظل أسطورتنا حية بروحها وجسدها لأطول وقت ممكن، لننظر إلى البرج العالي، ونصرخ بأعلى صوتنا:
“هنا تسكن أثرنا، هنا الصوت الذي نحب، هنا ذكرياتنا، هنا فيروز، سفيرة النجوم، جارة القمر.”




