بسمة حسن
حينما أتأمل الكاتب البرتغالي أنطونيو فرناندو نوغيرا دي سيابرا بيسوا أو من نعرفه اختصارًا بفرناندو بيسوا – Fernando Pessoa (1888-1935 م) أتصوره أخطبوطًا ذا رأس كبير وأذرع طويلة متعددة لا تنقصه سوى نظارة دائرية صغيرة كانت تميز وجهه، هذا التصور لم يأتِ من فراغ لأننا حين نتحدث عن هذا الكاتب المكثَّف فإننا لا نتحدث عن شخص واحد، بل شخصيات متعددة ومتشظية، تشظي نصوصه وكتاباته وفكره وأحلامه وتأملاته ومهاراته وشذراته، فنحن أمام هذا الكائن النابغ المتشعب الوحيد الهارب دائمًا وراء وجوه أبطاله، فلا ندري مع من نتحدث، مع دو باس، أم ألبرتو كاييرو، أم ألفاردو دو كامبوش، أم ريكاردو رييش، أم بارون تيف، أم برناردو سواريش وغيرهم من بدلاء بيسوا وأنداده الذين تخطوا المائة اسم واخترهم من وحي مخيلته ليعبروا عن كل ما يحلم ويفكر فيه، لذا فكما تعددت شخصياته تعددت اهتماماته وتنوعت ما بين النصوص النثرية والشعرية والنقدية والصحفية وغيرها، فدرجه “كان عميقًا إلى درجة كبيرة” على حد وصفه.
هذه الموهبة المتفجرة التي انطلقت شظاياها في كل صوب، قد تبدو أمرًا محمودًا بل كنز للشخص العادي لا يمكن التفريط فيه، فماذا يطلب المبدع أكثر من الأفكار؟ ولكن هل كان بيسوا شخصًا عاديًّا؟ بالطبع لا، إننا أمام كاتب خارق القدرات، تعددت دفاتره التي احتفظت بها حقيبته لوقت طويل ومُهرت بأسماء بدائله وانكشف الكثير منها بعد وفاته، لقد حلم بيسوا بالكمال ومن هنا جاءت عذاباته، هذا الكمال الذي رمى به إلى العدم، ورغم ذلك رأى أنه كافٍ ويغني عن الوجود مثلما أقر على لسان بديله بارون تيف.
هذه الدفقة الكبيرة من الأفكار والخواطر والشذرات اللانهائية وغير المكتملة، كان لها معادل آخر هو هذا العالم الكبير المتناثر أمام بيسوا، العالم الذي أراد أن يحويه مشكِّلًا عالمه الخاص الذي لا يشعر فيه بالاغتراب أو الوحدة، وهذا يحيلنا لأذرعه الأخطبوطية كما أسميتهم وأنداده كما أسماهم هو ليمنحهم الاستقلال اللازم الذي يوهمه بانفصالهم عن نفسه وذاته، ويتيح له صنع عوالمهم وحيواتهم الخاصة، فعن نفسه يقول: “اليوم لا شخصية لي، لقد قسمت كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي، اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي أنا فقط”([1]).
أطلق بيسوا إحدى أذرعه الأخطبوطية الأخيرة النبيلة المتألمة لشخصيته النابغة النادرة والفريدة بارون تيف الذي أفرد له كتيبًا وصفه بأنه المخطوط الوحيد والفريد لتيف، وهو أحد أقلام بيسوا وظلاله الكتابية التي جسدت مأزق المبدع بالغ الكمال إلى حد القصور الذاتي والعجز الذي توازى مع عجز نفسي متجسد في الشعور بالوحدة وعجز جسدي متجسد في ساق مبتورة وصعوبات جنسية، والانشغال بحساسية الآخرين التي تودي للافعل، أن يبدو أمامك ما يجنح الآخرون لفعله تافهًا فتمتنع عنه لتكتشف أن ما يفعلونه أشياء عادية، فتحول كل ذلك في النهاية إلى عجز وجودي.
عذابات تيف هي عذابات الكاتب الذي تهاجمه جيوش الأفكار والإلهامات والكلمات والجمل والأشعار ثم يشعر بالأسف على مرورها وهروبها وفقدانها دون جدوى قبل أن يستطيع الإمساك بها وتنظيمها أو تحويلها إلى شيء مادي ملموس تام، شيء موجود يتخطى فعل الحلم إلى الحقيقة والاكتمال، خاصة تلك الأفكار التي تندفع وتتدفق فجأة، متكتلة ومركبَّة وعميقة ومدهشة، لا بد من الربط فيما بينها والكتابة عنها لتخلق منتجًا وتحقق منجزًا وهو ما أسماه بيسوا “النص الذي لم يُكتب أبدًا” هذا النص غير المكتوب هو في الحقيقة تلك الأحلام العظيمة والخطوط والأفكار الروحية غير الملموسة التي تجسدت فقد في ذهن تيف وروحه وأمام عينيه فتراءت له وحده دون قدرة على تحقيقها، هذه الأفكار الأشبه بتهاويم المجانين التي يؤمنون وحدهم بيقينيتها، هذه الأحلام التي يكتشف أنها ليست إلا رذيلة مجنون.
هذه الحالة مثلت لدى ند بيسوا شكلًا من أشكال الحلم الذي من خلاله نبلغ بسهولة أنواع العظمة وكمال الأشياء، وهو ما يفرط على الجانب الآخر عقد الحقيقة والوجود فيقودنا للعجز والتخلي، ماذا ينقصنا في حلم عظيم كامل؟ من هنا فالحلم حينها يكون أفضل من وجود منقوص.
وكما يترك هذا أثره في نفس المبدع عاطفة وشعورًا ولذة في كل تأمل وكل موقف وكل شخص وكل مشهد يومي قادر على إحداث تأثيرات تطمئن وتنير وتُلهم، تترك أيضًا ألمًا لا يزول لأنها تتحول في النهاية إلى رؤى مبهمة لا يستطيع التعبير عنها باللغة، رؤى دون هدف، رؤى دون كلمات خاصة في حياة لا يجد فيها ما يربطه بها، حياة لا يستطيع التكيف مع واقعها المؤلم الذي يشعر فيه بالتعاسة وسوء الفهم النابع من داخله فكان دائمًا خاسرًا للعبة، إنها حال أشبه بحال الزاهدين الذين آمنوا بتفاهة الحياة، زهد وصل به لدرجة أن احتراق مخطوطاته أمام عينيه لا يثير فيه خوفًا أو دهشة.
من هنا نجد أن تيف لم يصمد كثيرًا في حياة بيسوا فاختار أن يكون مصيره الانتحار، لأنه كان الأقل تكيفًا مع الحياة والأكثر نبلًا وخجلًا وذكاءً وعمقًا ووضوحًا وكبرياءً، هذا الكبرياء الذي ترك فيه بعضًا من صلابة وجفاءً وجمود دفع به إلى التخلي، تخلي عدم القدرة على احتمال الألم والفشل والعجز مع كل اقتراب من الحقيقة في اكتمالها ومثاليتها، عدم القدرة على إنجاز عمل مكتمل، من ثم الغرق في المخطوطات والكتابات والمقاطع التي نقصها التمام، ومع اللامبالاة وفقدان الرغبة صار كل شيء لديه مؤجلًا.
الجدية والصرامة والانضباط والتفكير الواضح ومآسي تيف الشخصية التي أضيف لها فقدانه لأمه، كانت كفيلة أيضًا بأن يفقد حس الفكاهة التي قد يتحايل بها الآخرون على أنفسهم وأحزانهم وآلامهم وعذاباتهم، فغرق في الكآبة، تلك الحالة نأت به عن العالم الذي شعر تجاهه بالنفور والغثيان، هذا السيرك المرصَّع بالنجوم كما أسماه، فلم يستطع أن ينزل من عليائه، أن يثبط خيلاءه، أن يعود لصفوف البشر، أن يتنكر أمام الابتذال والسخف الاجتماعي، أن يتأنسن قليلًا ويتقبل فكرة الخطأ ليجد بعضًا من طمأنينة تمكِّنه من النجاة، أن يبحث في داخله عن بعضٍ من إيمان، أن يدرك أن الفن في أساسه فوضى وجماله وإبداعه في تلك الصفة.
رغم ذلك تلك الصرامة لم تُفقد تيف حساسيته التي لم تستطع الصمود أمام بؤس العالم وظلمه، أمام آلام الإنسان وعذاباته، التي آمن بأنه لا يوجد علاج لها أو شفاء منها، فحينما يفقد الإنسان الرغبة في كل شيء لن يجد نفعًا في التحرك أو جدوى أي إصلاح أو محاولة لتضميد ألم، وهنا تُختزل المشاعر في كونها طريق آخر للتفكير لا يؤدي إلا إلى الشعور بالغضب.
هذه الرغبة المحمومة في بلوغ المثالية والنقاء والكمال بدلًا من أن تصبح صديقًا لبارون تيف، كانت العدو الأكبر له والفكرة الوحيدة من دون أفكاره الكاملة المجردة في حلمه التي جسدت عدوًّا حقيقيًّا له هزمه شر هزيمه خوفًا من عدم تحققها بشكل ملموس بالكمال والنقاء الذي أرادهما، ومن هنا لم تعد تعنيه المسابقات والمقارنات والمبارزات، هو رأى دائمًا نفسه خارج كل منافسة، هو أبعد من أن يُقارن بأحد، ومن هنا كان الكمال مناهضًا للفعل، فإن لم يكن الشيء كاملًا فلا يستحق وجوده.
لقد افتقدت شخصية تيف القدرة التنظيمية التي تستطيع ممارسة نوع من السلطة على هذه الروح المكثفة لتكون قادرة على إنجاز أعمال أدبية كبيرة مكتملة ومتحققة على أرض الواقع، الذكاء الذي تمتع به أيضًا لم يجعله يقبل بالأدنى والمتوسط من العبارات والأعمال، والذي صاحبه ضعف في الإرادة أمام ما يتطلبه الجمع والتنظيم من جهد شاق يحوي الرؤية الشاملة لصاحبها، وهو في ذلك ينقد نفسه بنفسه معترفًا بأنه لو كانت غاية كل مبدع تحقيق الكمال لما تحقق أي عمل أدبي، ولكن أليس في التخلي عن الأشياء سيادة عليها؟ سيادة على أنفسنا والعالم؟ أو كما يسميها هو عزة نفس المهزوم في حياته، الذي فشل في إنهاء معركته الأخيرة، إلا أنه رغم كل ذلك لم يشك في خروجه منتصرًا، ولكن على طريقته الخاصة في الانتصار.
………………………………
[1] – فرناندو بيسوا، “رسائل ونصوص” ترجمة وتحرير وائل عشري، الكتب خان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2017.





