“شوك وحيد” الإنسان ككائن يتكوّن من فكرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تقدّم ابتهال الشايب في «شوك وحيد» نصًا يضع الإنسان في مواجهة نفسه وحيدًا داخل مربع الوجود  ليكتشف أنّ التحوّل هو جوهر الحياة

 حسن غريب

في روايتها «شوك وحيد» تواصل الروائية المصرية ابتهال الشايب مغامرتها الإبداعية في استكشاف حدود اللغة والوجود الإنساني، مقدّمة عملاً سرديًا يراوح بين الرمزية والفانتازيا الفلسفية.

الرواية، الصادرة عن دار المثقف عام 2020، تفتح أبواب التأمل في معنى أن يكون الإنسان “نتاج فكرة”، لا جسدًا ولا قدرًا فحسب. من خلال فضاء غرائبي معلّق في الهواء، حيث لا مكان واضح ولا زمان محدّد، تصوغ الشايب تجربة سردية تُسائل فكرة الوجود والهوية، والخير والشر، والتحوّل بوصفها أسئلة وجودية قبل أن تكون أحداثًا حكائية.

تبدأ الرواية بعبارة كاشفة: «أنا مجرد فكرة في مربع معلّق في الهواء، وُلِدتُ من نفس أحد الوحيدين الموجودين بكثرة داخل المربع.»

بهذه الجملة تضعنا الكاتبة في عالم ما وراء الواقع، حيث الإنسان ليس كائنًا محدّد المعالم، بل تجريد فلسفي داخل فضاء رمزي، هو المربع المعلّق الذي يتحوّل إلى استعارة للكون، ولعزلة الذات البشرية في مواجهة مصيرها.

لا تسلك «شوك وحيد» مسار السرد التقليدي، بل تذهب إلى تفكيك مفهوم الحكاية عبر بناءٍ تشظويّ يعتمد على المقاطع القصيرة واللقطات المتتابعة التي تُذكّر بالقصة الشعرية أو النص المفتوح. السرد هنا ليس وسيلة للتسلية أو الحكاية، بل أداة للتفكير.

تُراهن الشايب على لغة ذات بعد سيميائي، تُقيم الجسر بين المجاز والتجريب، فتستعمل الألوان والهواء والأشكال كدوالّ متغيرة. في عالم الرواية، تتحول اللغة إلى كائن حيّ يتنفس ويقاوم الفهم المباشر. كأنّها تريد أن تقول إنّ اللغة ذاتها تُصاب بالقلق الوجودي الذي يصيب شخصياتها.

وقد لاحظت أنّ الشايب «تكتب انطلاقًا من اللغة، لا من الحكاية»، فهي «تنقّب في اللغة كأنها تنقّب في الوعي»، وهذا ما يجعل الرواية نصًا تجريبيًا بامتياز، حيث الشكل لا يقلّ أهمية عن المضمون.

الموضوع المركزي في الرواية هو التحوّل  ليس بالمعنى الجسدي، بل بالمعنى الوجودي والفكري. الشخصيات في الرواية لا تتشكّل من لحم ودم، بل من “أجسام لولبية” و”هواء أصفر” و”أفكار معلّقة”. الإنسان في هذا العالم يُعاد تكوينه من جديد، بوصفه فكرة تتجسد، لا مخلوقًا وُلد بالصدفة.

تتساءل الشايب في الرواية: “هل تحوّل أيّ كائن إلى إنسان أمرٌ جيد أم مخيف؟ هل الإنسانية لعنة يجب أن نخشاها؟” بهذا التساؤل الجذري، تُعيد الكاتبة تعريف الإنسانية نفسها.

فالتحوّل إلى إنسان ليس خلاصًا بل امتحانًا مؤلمًا للوعي.

الكائنات في الرواية تتبدّل وتذوب وتتحلل، لكنها تظلّ تبحث عن معنى وجودها. وهنا تُطلّ رمزية الأشواك — التي ترمز إلى الألم الذي يُرافق عملية التكوّن، وكأنّ الكائن لا يولد إلا من الجرح.

الرمزية والفضاء السردي

الرواية مبنية على منظومة من الرموز التي تتحرك داخل فضاء مغلق:

المربع المعلّق:

يمثل الكون/القدر/الوجود المجرّد الذي لا يمكن الفكاك منه.

الوحيد: يرمز إلى الإنسان الحديث الذي يعيش عزلة روحية وسط ازدحام الكائنات والأفكار.

الأشواك:

 مجاز للألم، لكنها أيضًا دليل على النمو، لأن الشوك لا يظهر إلا في الكائن الحي.

الهواء الأصفر:

 يرمز إلى التلوّث الوجودي، وإلى أنفاس الحياة المشوّهة التي يتغذّى عليها البشر.

بهذه الرموز، تصنع الشايب عالمًا تجريديًا يمكن قراءته على مستويات عدّة: ميتافيزيقي، نفسي، واجتماعي في الوقت نفسه. فالرموز لا تعيش منعزلة عن دلالاتها الإنسانية العميقة، بل تُستخدم كأدوات للتعبير عن القلق الجمعي الذي يعيشه الإنسان المعاصر في عالم يتغيّر بسرعة.

جدلية الخير والشر والقدر

تُحيل الرواية إلى سؤال أبدي: هل نحن أحرار في خياراتنا أم مجبرون بقدرٍ ما؟

الشايب لا تقدّم إجابة جاهزة، بل تفتح الحكاية على التأويل. فالكائنات في الرواية تتحرك داخل نظام صارم (المربع)، لكنّها تحاول باستمرار مقاومة هذا النظام، أو فهمه على الأقل. إنّها معركة بين الفكرة (القدر) والوعي (الاختيار).

وفي هذا المعنى، تقترب الرواية من الفلسفة الوجودية في طرحها لمسؤولية الإنسان عن أفعاله حتى داخل نظام حتمي.

 لكنّها تفعل ذلك عبر الرموز لا الخطاب المباشر، ما يمنحها عمقًا شعريًا ومرونة تأويلية عالية.

اختيار اسم البطل «الوحيد» ليس عبثيًا، فهو يمثل الإنسان في أقصى حالاته: العزلة والاغتراب.

«الوحيد» كائن لا يعرف أصله ولا مصيره، يعيش داخل مربع بلا نوافذ، يتحدث مع أفكاره أكثر مما يتحدث مع الآخرين. بهذا الشكل، يتحول إلى رمز للإنسان الحديث الذي يعيش محاطًا بالضجيج، لكنه من الداخل مهدّد بالفراغ.

العزلة في الرواية ليست سجنًا خارجيًا بل حالة وجودية. فـ«الوحيد» لا يبحث عن الآخر بقدر ما يبحث عن معنى وجوده، عن لحظة توازن بين أن يكون فكرة وأن يكون جسدًا. وهنا تكمن مأساة الإنسان كما تراها الشايب: أنّه دائم التكوّن، لا يكتمل أبدًا.

وبذلك تُعد «شوك وحيد» واحدة من التجارب اللافتة في الرواية العربية المعاصرة، لسببين رئيسيين:

  1. كسر النموذج الواقعي المألوف:

 الرواية لا تتعامل مع الحدث أو الشخصية وفق النمط الكلاسيكي، بل تستبدلهما بمفاهيم فلسفية ومجازية.

  1. تجريب لغوي وسيميائي واعٍ:

 اللغة ليست أداة نقل بل أداة تفكير. كل جملة تُشكّل فضاءً من المعاني المفتوحة.

بهذا المعنى، تُسهم الرواية في تطوير الحس الجمالي في السرد العربي، وتعيد الثقة في قدرة الأدب على أن يكون مختبرًا للوعي لا مجرد مرآة للواقع.

رغم ثراء النص وجرأته، يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية:

التجريد المفرط قد يحدّ من تفاعل بعض القرّاء الباحثين عن سرد واقعي واضح.

كثافة الرموز قد تُربك القراءة الأولى، وتحتاج إلى قارئ معتاد على النصوص التأويلية.

ضعف الحبكة الخطّية يجعل الرواية أقرب إلى نصّ شعري مطوّل منها إلى رواية تقليدية، وهو ما يمكن اعتباره مكمن قوتها أو مأخذًا عليها، بحسب زاوية القراءة.

ومع ذلك، فإن هذه الخصائص تجعل «شوك وحيد» عملاً تأسيسيًا في السرد الرمزي العربي الجديد، وتفتح الباب أمام أسئلة جمالية جديدة حول وظيفة الرواية وحدودها.

في النهاية، تقدّم ابتهال الشايب في «شوك وحيد» نصًا يضع الإنسان في مواجهة نفسه وحيدًا داخل مربع الوجود  ليكتشف أنّ التحوّل هو جوهر الحياة، وأنّ الأشواك التي تجرحه هي ذاتها التي تجعله يزهر.

الرواية تُعيد إلى الأدب العربي روحه الفلسفية التي تربط بين الخيال والفكر، بين الرمز والإنسان، في زمنٍ يفيض بالسطحية والتكرار. وهي بذلك ليست مجرد رواية فانتازية، بل بيان أدبي عن معنى الوجود في عالمٍ تتبدّل فيه المعاني والوجوه واليقينيات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد مصري 

مقالات من نفس القسم