أم إسماعيل

aya albaz
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آية الباز 

في اليوم الذي أتممت فيه عامي الثامن عشر ذهبت مع والدي وزوجي العرفي إلي المأذون من أجل إتمام إجراءات الزواج الشرعي وذلك لأنني كنت علي وشك الولادة وكان قلبي يغرق في أضلعي إذا ما خطر ببالي أن ألد قبل أن يتم توثيق عقد للزوج كي أحفظ حق إبني في توثيق حقه بالحياة و إدراج اسمه علي أنظمة الدولة كمولود ومواطن مصري علي أرض الوطن الذي يحملني وأبي وأبيه؛ ولو مؤقتاً قبل العودة الي بلد زوجي الخليجي صاحب الثلاثة وستون عاماً.

لم أك كبقية الفتيات المشاغبات اللواتي احتفظن لأنفسهن  بحق اللعب والجري بين الشوارع وشد الحبل والغميضة..

كانت أمي مريضة وفي حاجة دائمة للأدوية والمسكنات والمتابعة الطبية كل شهر مع طبيب المستشفى العام.

وكان والدي عاملاً بأحد مصانع الغزل والنسيج وتم تسريحه بمكافأة لا تقيم رمقاً ولا تصلب عوداً

 ولا تُطعم فأراً بعدما أُصيبت إحدى يديه  وكف عن العمل بها تماماً.

فبات يأكل يوما ويجوع عشرة ونأكل يوما ونجوع يومين.

يؤثر نفسه بالخبز الجاف مدعياً إنه يحبه بالملوخية ويكتفي به غذاءاً وعشاءاً ويترك لنا الخبز اللين والجبنة مع حبة الطماطم وبعض ورقات الخس التي يجود بهما بعض الجيران.

لم يكن يعلم او يعمل شيئا آخر غير النسيج.

لم يكن يصلح للعمل في أي مكان لان يده مقطوعة الأثر.

حملتُ البيت  علي اذرعي  الثمانية كأخطبوط يلفّه حول أذرعه .

ذراع ينظف وآخر يناول أمي الدواء ويمسح دمعتها الجافة وآخر يحبو علي أكتفاف إخوتي الصغار يحتويهم وآخر يلوح لأبي وهو خارج من البيت يفتش في بطن الأرض عما يؤكل كطائر يضرب بمنقاره الأرض بحثاً عن يرقة أو دودة.

وآخر يكتب اسم أخي علي الكتب الدراسية وآخر في حنين وشوق ينازع نفسي ينفص الغبار عن شنطة مدرستي النائمة في هدوء منذ ثلاث سنوات ونصف حين اضطر والدي لإلزامي بالبيت دون المدرسة.

في الوقت الذي كانت فيه الفتيات يلعبون الغميصة في الشارع كنت أُغمض عيني وأحلم أن أكون معهم ولكن الطيور علي سطح البيت ذي الطابق الواحد تطلب الماء والاكل، وحين كانت بنت خالي تلبس فستان الفرح، ذهب الجميع  للحفلة وبقيت أنا أحفظ أمي و الدار.

كان البؤس حليف أبي والوجع حليف أمي والفوضي من نصيب إخوتي الاربعة.

وآخر وآخر….

انتهت الأذرع الثمانية لكن كان هناك فرْجاً مفتوحاً يريد السدادة.

حين جاء عم محروس جارنا يعرض علي أبي رجلاً ثرياً سيغدق علينا جميعاً بالمال.

لمعت عيني اخوتي من الفرحة وأغمضت أمي عينها، لم أكن أعلم لماذا تغمض عينيها.فهي لم تكن تلعب الغميصة.

وهلل اخوتي الصغار مرحبين بقدوم المال.

وفي استحياء قال العم المحروس إن الرجل كبير قليلاً ولأن لا يعيب الرجل غير جيبه فوافق أبي علي رحيلي دون ان أتمم عامي السابع عشر.

راضياً بالمنزل الجديد في البلد الجديد مع الزوجة الجديدة بعدما دُفنت أمي بعد خطبتي بأسابيع .. يقال أن الحزن سبب الوفاة ولكني لا أعلم.

لم تشتك مني مرآتي ولا مرة، فهي الوحيدة القادرة علي منحي أُذنها بدون تململ ولا رغبة في أن تصعّر خدها لي لئلا تسمع حكايتي، كانت وديعة، صامتة؛ ليس لها فم مثلي.

في غضون أيام ايام زُفت الاطعمة علي اختلافها والفاكهه علي صنوفها واللحمة علي أشكالها وطاف بالبيت جميع العرايا. يطلبون الملبس ومما أفاء علي أهلي من واسع الرزق.

كان والحق يقال رجلاً كريم الخُلُق سخيّ اليد، عطوف القلب.

تزوجني لينجب ولداً ذكراً؛ آملا في المصرية أن تأتي بإسماعيل آخر.

تطوعت جارتنا أن تقوم مقام أمي في تلقيني دروس ما قبل ليلة الدخلة. لا أنكر انني أُصبت بالذعر والفزع ولكنها طمأنتني بأن الموضوع كله عبارة عن شكة دبوس وينتهي الأمر. وهذا العجوز لديه من الخبرة ما يجعله يُحسن التعامل مع الفتيات الصغيرات..هو بلا شك عطوف ورحيم

وعلي خير تمت كل الدروس.

في ليلة وضحاها بعدما عَلِم بخبر حملي سافر لبلده يطمئن علي زوجتيه  وبناته السبعة جميعاً. مستبشراً أن يكون الثامن اسماعيل.

لم يضيّع شهراً واحدًا دون إرسال المال وأغدق من فائض كرمه علي أهلي خير إغداق. غير انه لم يرجع محتجاً بأشغاله ومصالحه ويكتفي بالمكالمات الهاتفية صوتاً وصورة كل عدة أيام.

في الاسبوع الاخير من شهري التاسع قرر النزول لشهادة ولادة الطفل وكالعادة استأجر لي غرفة خاصة بمستشفى كبيرة تليق بالمولد الذي يحضر بعد ثلاثة وستين عاما وسبعة بنات.

غير أن أبي أصرّ علي كتب الكتاب قبل الولادة وحين اعترض هدده أبي بالهرب بي وبالطفل وعلي قهر وافق بكتب الكتاب.

وأخيراً

اسم الأم: هاجر محمود عبد الرحيم ..الغالية أم إسماعيل.

بهذا يرد علي موظف الصحة وهو يدون طفلي في السجلات المصرية.

ومن هذا اليوم لم أسمع اسم ابني مرة أخرى.

غادرت الأب والابن والأهل.

وها انا ذا أبحث في كل مكان عن إسماعيل ابن هاجر المصرية.

…………………..
من مجموعة “امرأة قابلة للطي والتخزين” 

مقالات من نفس القسم