أسامة كمال أبو زيد
لم يكن للضفة الشرقية من القناة غير الصمت، الرمال، وبعض صدى الفحم المتطاير من جهة الغرب.
لم تكن هناك مدينتان، بل مدينة واحدة على مجرى القناة، اسمها بورسعيد. مدينةٌ بأكملها تنهض من زبد البحر، وتنام على ضوء الفوانيس. لكن في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1926، وفي صباح الثلاثاء، أعلن الملك فؤاد ولادة مدينة جديدة، تشبه توقيعه على صفحة الماء، وتسمّت باسمه: بورفؤاد. على الضفة الأخرى من مجرى الحياة، وُلدت هذه المدينة مثل غيمة تتشكل فجأة، تسعى إليها السفن، وتدور حولها الحكايات.
كانت الضفة الأم قد ضاقت بترسانة الشركة الفرنسية، بمخازنها ومستودعاتها، وضاق القلب بالبقاء، فكان لا بد من الرئة الجديدة. فُتحت الضفة الأخرى، لا كخطة هندسية، بل كحلم استوطن روح الشركة التي كانت تُدير القناة كما يُدير العاشق بيت محبوبته، فهجّرت مهندسيها وعمالها، وسارت بهم إلى برّ الفحم، حيث نادى (اشكرابية) يتنفس من احتراق الفحم ويتغذى على رماد السفن. هناك، في عام 1902، تأسس أول نادٍ رياضي في مصر، سابقًا في الميلاد حتى نادى السكة الحديد.
ذلك النادي لم يكن مجرد ملعب، بل كان جذرًا غرسته الشركة الفرنسية في الأرض البكر، وحولته إلى تميمة. وعلى أبوابه، نُقش الجعران الفرعوني وهو يحتضن الكرة الأرضية كأنما يُعيد تشكيل الأسطورة في وجه الزمن. وما لبث هذا الجعران أن ارتحل إلى كل أبواب الشركة: باب القبة، وباب المعديات، وباب التاريخ.
في عام 1922، تعهّدت شركة قناة السويس للحكومة المصرية بشريان جديد يصل الضفتين: معديتان على الطراز الفرنسي. لم تكن مجرد وسيلة عبور، بل ممرًا للهواء، للمستقبل، للأمل. صُمِّمت على غرار العبارات الصغيرة التي كانت تتوهج في مدن أوروبا، وزُرعت حولها غابة من الكافور والجازورينا، واختيرت الأرض الجديدة بعناية، لتُقام عليها فيلات بالطراز المتوسطي، الفرنسي واليوناني معًا، كأنما المدينة بُنيت كي تكون مرآة للبحر ودفترًا للحنين.
أسكنت الشركة ثمانمائة عامل وموظف، وأقامت لهم بيوتًا من الخشب والحلم، وأعطت للبعض منهم قطعًا من الأرض بشرط أن يحافظوا على سر المدينة الجديدة: ألّا ينتهكوا طرازها، ولا يلوثوا لونها، ولا يسرّبوا ضوءها إلى النسيان.
ولأن الأشياء الجميلة تحتاج إلى لحظة تتويج، اعتلى الملك فؤاد ظهر يخت المحروسة من الإسماعيلية، وأمضى ليلته أمام قبة قناة السويس. وفي الصباح، دخل تاريخ الماء. ركب المعدية الأولى، ودخل بها إلى مدينته، كما يدخل اسم في قصيدة. امتزج الاسم بالمكان كما يمتزج الضوء بالندى.
ولو لم تكن الحرب العالمية الأولى، لربما تغيّر اسم المدينة. لكنّ الحرب أوقفت الحلم حتى اكتمل للملك وحده، لا للخديوي قبله، ولا للسلطان من بعده.
كانت المعدية الأولى حلمًا فرنسيًّا يطفو فوق الموج، ومنذ يومها صارت المعدية كوكبًا يدور بين المدينتين، لا يحمل الركاب فحسب، بل يحمل الأزمنة والتبدلات، يحمل الروح من شاطئ إلى شاطئ، من غياب إلى حضور.
صالونها الفاخر كان مقسومًا: للأجانب رفاهية الجلد المصقول، وللمصريين خشونة الوقت والانتظار. ثلاث سيارات فقط تتسع لها المعدية، وكثير من الأمل. كانت الأعلام الفرنسية واليونانية تُرفرف على ظهرها، وكان للماء لغة مزدوجة، تفهمها السفن وتحكيها الطيور.
لكن كل ذلك تغيّر.
جاء عام 1956، وجاءت الثورة، وتبدلت المعدية. لم تعد معدية الفرنسيين، بل صارت معديات المصريين. لم تعد تمر على سحر المتوسط بل على بارود المقاومة. من العدوان الثلاثي إلى نكسة يونيو، ومن حرب الاستنزاف إلى أكتوبر، ظلت المعدية تكبر، تتحول، تشيخ. تحوّلت من معدية حلم إلى كتلة من الحديد، تئن على سطح القناة مثل قلب مثقل بالخسارات.
ظهرت المعدية ذات الدورين، وتفككت الأرواح في مستويات: فوق وتحت، حلم وخوف، سكون وصخب. والرحلة بين المدينتين لم تعد خمس دقائق زمن . كل دقيقة فيها وجع وسعادة، انتظار وشغف، عبور وخشية. حتى أن نفير المعدية صار نداءً داخليًا لا يُمحى.
كانت الشتاءات، وما تزال، موعدًا لعشق الحياة، حين تنزل طيور النورس من سمائها العالية، وتتحلق حول المعدية، تستقبلها كما تستقبل الأرواح الزائرة. وفي لحظة اللقاء بين النورس، والمطر، والغروب، تنعقد داخلنا صلاة خفية لا تُفصح عن نفسها.
لكن للمعدية أيضًا ذاكرتها.
مشهد الدراجات الذى يتكرر كل صباح وساعة انصراف: آلاف الدراجات تندفع من شوارع بورسعيد كأنها في سباقٍ مع الريح، على نغمة الزمارة الشهيرة. تسابق لا يُنسى، وصخب لا يُعادل. الأطفال يعدّون العجلات، والغرباء يتوهّمون سباقًا حقيقيًّا، والمشهد يعود كل يوم ثم يختفي.
غيّر الزمن هذا الطقس أيضًا. حلت السيارات محل الدراجات، وضاقت الأرصفة، واختنق الحنين. لكن سينما الروح لم تنسَ أن تصور المعدية: شاطئ الأسرار، مفيش تفاهم، الباب المفتوح، المشبوه… أفلام كانت المعدية فيها ممثلة وديكورًا، ومجازًا أيضًا.
ولأن للمكان أساطيره، فالمعدية لم تبقَ مجرد وسيلة عبور. صارت حاضنة للأساطير الصغيرة: عازف السمسمية العجوز بأغنيتيه الوحيدتين، وبائع المناديل المتقمص لكابتن سافو، ومعركة القلب الشجاع التي خاضها شباب بورفؤاد ضد بلطجية ( زرزارة) في زمن ثورة يناير.
المعدية لا تحفظ أسماء أبطالها، بل لحظاتهم. لحظة عبور، لحظة غناء، لحظة شجاعة. وكل حكاية تبدأ من الشاطئ وتنتهي على متنها، أو العكس. والماء يحفظها قليلًا، ثم ينسى.
أما أنا، فكانت لحظة اكتشافي للمعدّية مساوية للحظة اكتشافي للبحر. كلتاهما حرية، كلتاهما نافذة على ما لا يُقال.
كانت طفولتي مغلقة على لعب الأقران، حتى سن السابعة. وهناك، عند صالة قبة قناة السويس، رأيتها لأول مرة، وسكنتني. المعدية، التي تعبر من المعلوم إلى المجهول، من الزمان إلى الحلم.
رأيتها بجلال الجزيرة، وغموض الأساطير. مثل جزيرة السندباد التي كنا نتابعها بشغف في تلفاز الثمانينات.
رحلتي الأولى معها بدأت من شارع “محمد علي” وحتى النصف الفرنسي من بورفؤاد. كل حجرة، كل نافذة، كانت تروي لي شيئًا. وكأن الراحلين ما زالوا هناك، ما زالوا يهمسون خلف الزجاج.
المدينة كلها صارت سنبلة جافة حزينة، تُصارع بقاءها، تُصارع الخرسانة الجديدة التي تبتلع الذاكرة.
وكلما جاء الشتاء، ورأيت طيور النورس تحط فوق الماء، عرفت أن شيئًا ما لم يمت.
رميت فتات الخبز، رأيت الطيور تلتف، وسمعت الأغنية القديمة في عيونها، وبللتني دهشة الحضور.
فكرت أن الغروب ليس نهاية، بل شروق على ضفة أخرى، لم نصلها بعد.





